شكسبير والنفس الانسانية
شكسبير: هذا الاسم الذي ملأ الدنيا, وضاقت به صفحات الكتب, ذلك البدر الساطع في دنيا الأدب شاعراً للكون, ومرآة صادقة للانسانية, تطالعك بما يسير في نفسك الرعب والفزع, وتدخل في نفسك السرور أحياناً, وتقض مضجعك من فرط الألم أحياناً أخر... اعجوبة خارقة, ولكننا لا نبحث عنها لأننا نراها حيثما رأينا شكسبير في عمله ورأينا أنه عمل عظيم قليل النظير بين أعمال النابهين على غراره. شكسبير... أنه اسم غني عن التعريف, ولكنني أمام هذا الخضم المضطرب المائج من انتاجه أقف مذعوراً أحتار من أي الأماكن أغوص بين أمواجه. وبأي صخرة استنجد إذا ما أرهقت وأضناني التعب. حيال هذا أرجع بخيالي ألى سيرة كاتب الأعاجيب التي ليس فيها خبر عجيب ... ترى من هو هذا الفتى الذي تحالفت الطبيعة والأيام على إعداده ؟!! ... في اليوم الثالث والعشرين من شهر ابريل عام 1564 بزخ نجم جديد في سماء (استراتفور) والواقعة على نهر (الآفون). وانطلقت أول صيحة من وليم شكسبير ابن جون شكسبير, فتهللت وجوه والديه وما علم أحد منهم أن هذه الصيحة ستتلوها صيحات وصيحات تدوي في أنحاء العالم, وعلى مرّ الدهور. وأن هذا الوليد الصغير سيلهج بذكره في كل مكان وزمان وأنه سيصبح يوماً من عمالقة الأدب وفحلاً مبرزاً من فحولة المبرزين. عاش شكسبير أيامه الأولى في استراتفور وما عرفه إنسان ولا أحس به مخلوق... عاش مجهلاً لم تبدُ عليه أية سمة من سمات النبوغ, ولا بدرت عليه علامة من علامات العبقرية. قضى صباه وفتوته نسياً منسياً يئين بأعباء الحياة كما يئن الملايين, يشرد حيناً ويستقر حيناً آخر طلباً للرزق ... تزوج شكسبير من (آن) إحدى بنات اسرة (هافواي) الريفية, ورزق منها بسوسن, وجوديت, وهيجنت, وأصبح لزاماً عليه أن يبحث عن مورد للرزق غير مورده النزر المضطرب بعد أن تأزمت الضائقة التي حلت بأسرته ولم تؤذن بانفراج قريب ... ومن هنا بدأت المقادير تمهد الطريق لظهور عبقرية أرادت لها البقاء والخلود ... ففرشت الطريق من استراتفورد إلى لندن بالأماني الحلوة العذبة, وأشرق الأمل في عيني شكسبير وأقبل على لندن وفي النفس ما فيها من مرارة الأيام, وفي الفؤاد ما فيه من لوعة الحرمان لفراق مرابع الصبا ومواطن الطفولة... أقبل على لندن في زهرة الشباب وعنفوان الفتوة, فتى مجرباً لا غراً ولا حدثاً, أقبل مؤمناً بنفسه, واثقاً في جهاده ليبلو حياة جديدة غامضة. كانت لندن القلب النابض بألوان النشاط التي حفل بها ذلك العصر, والبؤرة التي تركزت فيها كافة الأحاسيس الجديدة, فهي العاصمة, وهي مقر السلطان, والأراء الفلسفية, والمشاحنات الأدبية. وكانت تجتذب إليها طلاب المغامرة والمخاطرة, وتضطرب بلواعج النزاع على مذاهب الدين, ومذاهب الفكر, وقارب السياسة. فيها الملاهي والحانات .. وقل أن خلا مكان من الرقص .. وقد ثبت أن شكسبير كان يطوف بالحانات في قصد واعتدال – وأنه كان يشارك أهل لندن في لهوهم ومتاعهم– لم تفرقه لجتها, ولم تأسره بمفاسدها, بل بقي منها نجيّاً يراها ويحسها, ويصيب منها قدراً من غير اسراف أو إسفاف. فزود الشاعر بالجمهور المترقب المتطلع, والروح الوثابة الناهضه والحياة النشيطة الدافقة تجري في عروقه كما تجري في عروق الشعب وتلون الحياة بألوان تبعث على الاستمتاع بالجمال ... وهل كان هناك أجمل من الفن يبدو في مسرحيات خالده على مسارح لندن في ذلك الحين .. ! وهل كان أجمل من الشاعر تتفتح نفسه لكل هذه الحياة, ثم يردها على الناس جميلاً فيه قربى إلى نفوسهم, وفي نفوسهم أبداً ظمأ إليه ... ولكن ... هل كان ذلك كل ما شهده شكسبير في لندن ؟... هل اكتفت المقادير أن تزوده بالجانب المرح وتكفيه شر الاسى و الشجن.؟... لا... لقد جادت المقادير لحسن الحظ بمصرع خمسة أو ستة من أصدقائه النبلاء والمتأدبين .. طاحت رؤوسهم, أو نكبوا في مناصبهم وأموالهم. ولم يسلم صاحبه (لسيستر) من بينهم – وهو مدير الفرقة التمثيلية التي من أجلها أباحت الملكة (أصابات) إقامة المسارح في العاصمة – بعد الحكم عليه بالموت إلا لما صادفه من الحظ والحظوة في أعين الملكة التي كانت تدنيه وتقصيه عن حكم الدسيسة والفتنة. ثم قتل عاهل شكسبير اللورد (اسكس) نتيجة الدسائس التي حيكت ضده, وشرد أتباعه, ومناصروه من الأمراء وفي طليعتهم اللورد (ساوتها مبتون), ولم يسلم صديقه الشاعر (مارلو) من الاتهام بالكفر والاغتيال المريب مع اتصاله الخفي بعيون الدولة وجواسيسها. ومثل هذه الحياة بحوادثها وتقلباتها حرية أن تطبع في نفس شكسبير آثاراً عميقه, وهي النفس الحساسة التي تستشف الأشياء وتعكس الوجود ... فلم يكن عجيباً بعد هذه الحوادث أن يتملك الجزع نفس شكسبير, وأن تطلّق روحه المرح, وأن يزهد في إضحاك الناس وهو حزين النفس لمقتل أتباعه ومناصروه. أجل .. ملأ الحزن نفس شكسبير وطغى عليها, فلم تعد مزاميره ترتل ألحان الفرح, إذ هالته الفاجعة فلم يدر ما يقول. وعكف شكسبير في صومعته سنين ثلاث, طواها صامتاً لا يتكلم, ولا ينفخ في مزمار فنه. ولعلها كانت سنين الإعداد والتحول. فقد حدّثنا التاريخ أن الفترة من سنة 1601 – 1603 كانت فترة استجمام وتهيؤ, انطلق بعدها شكسبير يعالج مآسي الحياة معالجة الجبار الذي دمى قلبه, وتفطر كبده, وذاق من كأس الوجود مراره أهاجت ثائِرتَهُ. وإذا كان شكسبير صدى لعصره, ومرآة لبيئته, فهو يصدر عن وحي نفسه وشعوره, وكلا النفس والعصر مشحونان بالآلام مليئان بالكآبة, فالعصر حزين متبرم لموت الملكة (اليزابيث) التي كانت كالشمس يشع ضوؤها في كل مكان, ويشعل نار الحماسة في كل صدر, ويبعث الأمل دافئاً إلى كل قلب. والنفس مجروحه, والفؤاد ملتاع, فالأحبة قد تفرقوا, والخلان قد طاحت رؤوسهم, وحتى الأب السيد جون شكسبير الذي كان يعول أسرة وليم ويتولى رعايتها قد أنشبت المنية فيه أظفارها ففارق الحياة سنة 1601 تاركاً لشكسبير عبئاً ثقيلاً زاد حمولته, وحز في قلبه, فأصبح لا يتنفس إلا الأسى, ولا يتمثل إلا الحزن والكآبة. وقبل أبيه مات وحيده (همنت) في سن العاشرة دون أن يراه سنة 1596 وتركت وفاته في نفس شكسبير ندبة دامية, تحركت مع العوامل الأخرى فصاغت من نفس شكسبير أتوناً يقذف بالحمم في دنيا المآسي. وأنتج شكسبير بعد هذه الفترة من الصمت روائعه الخالدة (هملت) و (عطيل) و (لير) و(مكبث) فجاءت معبرة عن شعور شخصي ومفصحة عن حالة روحية تملكت نفس الشاعر فنقلته معها إلى العظمة والخلود. وهكذا تأثرت حياة الشاعر في لندن بعوامل هي التي هيأت للعبقرية أسباب الظهور وتعهدتها بالنماء, ولعل أول هذه العوامل جميعاً هي المدينة نفسها لندن, وما أوحته إلى نفس الشاعر, من صور وأحاسيس, كما كان للنهضة المسرحية التي حمل لواءها الكتاب من قبل شكسبير, أضف إلى ذلك ما وفق إليه الشاعر من صداقة ذوي الجاه والنفوذ من طبقة النبلاء. هذه العوامل الثلاثة مجتمعه, تآلفت على أن تهيء للعبقرية الكامنة سبل الظهور, على أن التفاعل بينها وبين الشاعر كان تاماً باعثاً على الوفرة والخصب .. ولننظر قليلاً إلى النهضة المسرحية في زمن شكسبير وتأثره بهذه النهضة, ولنبين أثرها الفعال في كتابته وفنه. نشأت الدراما الانجليزية نشأة شبيه بنشاة الدراما اليونانية في أحضان الدين, وظلت على هذا حيناً من الدهر ثم غلب عليها شيطان الفن, فأغضبت الكنيسة وعقت الدين, وانبعثت أداة خالصة لفن خالص, فتخلت الكنيسة عنها وأقصتها عن أبوابها لأنها في اعتقادها أصبحت فتنة للناس تصرفهم عن أمور دينهم. ولم تعدم الدراما بعد انفصالها من الكنيسة من يحميها, فقد وجدت ملازاً قوياً عند رجال الصناعة وأصحاب الحرف يحميها من غضب الكنيسة. ولا يهمنا في هذا الباب ما تقلبت فيه الدراما من سير إلى التقدم أو تردي إلى النكوص, ولكن الذي نريد أن نعرفه هو أن للدراما أسس وحياة قائمة قبل عهد شكسبير, وأن ميدانها لم يكن خالياً من فرسانه, فقد كان هناك كتاب معاميد في مسرحياتهم قوة وفي شعرهم روعة وجمال أمثال (توماس كيد) شاعر المآسي الدامية, و(مارلو) استاذ شكسبير, و(جون ليلي) صاحب الملاهي الرومانسية, و(روبرت جرين), و(بن جونسون) وغيرهم. وكان المسرح مزدهراً عامراً والناس مقبلون عليه, وزاد عدد المسارح في لندن حتى بلغ الثمانية لمدينة لم يكن عدد سكانها يزيد على مائتي ألف نسمة. ولكن الشيء الذي يثير الدهشة حقاً, هو كيف كسفت شمس شكسبير هذه الكواكب اللامعة في سماء المسرح الانجليزي وقد عاش المسرح على جهودهم سنوات. ترى أي نقص في الكتابة المسرحية استكمله شكسبير, وأي ضعف سيره إلى قوة.؟؟ وما مبلغ ما أخذ من أعلام المسرح في ذلك الحين ؟.. لقد كان كتاب المسرح في عهد شكسبير وقبله على صلة بالآداب القديمة, وأجادوا اليونانية واللاتينية قراءة وأدباً, وتأثروا تأثيراً مباشراً بتلك الآثار العظيمة الرائعة. ولعل الفارق بينهم وبين شكسبير وقد أخذ عن القدامى كما أخذوا, أو أخذ عنهم ما التمسوه عند القدامى, إنك تلمس في كتاباتهم أثر المجهود وخشونة التقليد, في حين يغيب عنك ذلك في شكسبير لأنه أخذ كما يأخذ الكفء من الكفء والند من الند ويضفي على ما يأخذه من صنعاء نفسه ومعين شاعريته ما يحيلها خلقاً جديداً.. ولنتعرف على شكسبير معرفة حقيقية صادقة علينا أن نتعرف على بعض أصدقائه. ترى من هم هؤلاء الأشخاص الذين اتخذهم شكسبير أصدقاء له وعاش معهم الفترة الذهبية من حياته بأحاسيسه ومشاعره؟ لا شك أنهم كثيرين ... أصدقاء ونعم الأصدقاء.. لكن ... لا ننسى أن الكمال لله وحده عز وجل ... فما دام أصدقاء شكسبير بشر وليسوا بآلهه, فإنهم معرضين للخطأ, ولا عجب إذا كان من بينهم المجرم أو المستهتر أو الفظ العنيف. ولنسامح شكسبير إذا صادق أمثال هؤلاء, لأن خبايا النفوس مجهولة وصعب على الإنسان أن يكتشفها إلا بعد دراسة دقيقة وزمن طويل ... من بين أصدقاء شكسبير الذين استهوتني شخصياتهم وأحببت أن أتكلم عنها في هذا البحث ثلاثة: هملت, وماكيت, وليدي مكبث. هملت ... تعتبر مسرحية هملت من أعظم المسرحيات العالمية ويعد بطلها هملت من أدق الشخصيات في تاريخ الآداب الإنسانية وأوفرها غموضاً واختلافاً في الفهم والتفسير ... وتمثل هذه المسرحية الملكة (جرترود) ملكة الدانمرك, وأرملة ملك الدانمرك الملك هملت والد الأمير هملت الصغير, وقد أصبحت زوجة لأخيه (كلوديوس) عقب ترملها بشهرين, بعد أن عمل هذا الأخير في الخفاء للتخلص من أخيه كي تتاح له فرصة الزواج بأرملته والجلوس على عرش الدانمرك محتلاً بذلك مكان الأمير الصغير (هملت) ابن الملك الراحل والوريث الشرعي للعرش ... وعاش الأمير هملت في بلاط ملكي فاسد, بلاط الخيانات والدسائس. غدر أخ لأخيه, وخيانة زوجة لزوجها. ترى ماذا أصاب صاحبنا هملت في هذا الجو الآثم المكفهر؟.. من المفكرين من يقول أن هملت قد جن وفقد قواه العقلة, ومنهم من شوه رجولته, واتهمه بالقسوة والشر نظراً لتحطيمه حب أوفيليا, وزلزلته قلب أمه. ومنهم من قال أن الرواية كلها رمزية ترمي للدفاع عن البروتستانية مهاجمة نزعة الالحاد. فهملت يمثل فيها روح الشك والتمرد, وأوفيليا تمثل الكنيسة بوداعتها وطهرها, والشبح يمثل صوت المسيحية أو صوت الحق الأمثل ... ولنتتبع هملت خطوة خطوة خلال أحداث الرواية. علنا نستطيع أن نحكم عليه ونبدي فيه رأياً. كان الأمير هملت فتى كريم النفس, مرهف الحس, دقيق الشعور بالشرف, جم الأدب, حريصاً على النزاهة ومبادئ الإستقامة, يميل إلى التجمل والتظرف في سلوكه. ولهذا فقد آلمه ألماً شديداً وحز في نفسه ذلك المسلك المشين الذي سلكته أمه الملكة (جرترود) لزواجها بعد زمن قليل, ومن أخيه المكروه. وكان أشد ما يكرب هملت ويشغل باله, بل ويقض مضجعه, هو ما خامره من شك في الطريقة التي مات بها أبوه, إن الملك (كلوديوس) يروي عن وفاة أخيه رواية مؤداها أن ثعباناً تسلل إلى مكان الملك, وهو في الحديقة, فلدغه فمات. ولكن هملت الشاب الذكي الفطن كان يعتقد أن الثعبان الحقيقي الذي قتل والده هو كلوديوس نفسه الذي يجلس الآن على عرش ضحيته ... ولكن هملت لا يستقر على رأي إنه دائماً نهب للشكوك والريب, وهذا مصدر متاعبه وآلامه. إن الظنون ترهقه وتستبد به وهو لا يدري ما نصيب ظنونه من الصواب أو من الخطأ, ولا يدري هل هو مصيب في فروضه وتخيلاته أم هو مخطئ؟.. هل قتل الأخ أخاه أم لم يقتله؟ وإذا كان قد قتله فهل كات والدته مشتركة معه ؟.. وإلى أي مدى كان اشتراكها؟... هل كانت مطلعه على سر هذا القتل؟ وهل تم ذلك القتل بعلمها ورضاها؟... أم أنها فوجئت بوقوعه, كما فوجئ هو وكما فوجئ بقية الناس. وبينما هو يتخبط في هذه الشكوك, ترامت إلى آذانه ذات يوم إشاعة سرت بين الناس فحواها أن بعض الجنود ومن بينهم صديقه (هوراشيو), قد شاهدوا في أثناء حراستهم في منتصف الليل شبحاً بشبه أباه الملك هملت المتوفي شبهاً كبيراً. ودهش الأمير هملت عندما استمع إلى هذه القصة التي لم يكن فيها من الضعف أو التناقض ما يدع مجالاً للشك فيها أو تكذيبها. وقرر أن يسهر للحراسة مع الجند في تلك الليلة كي تتاح له فرصة مشاهدة شبح والده. كانت ليلة ليلاء من ليالي الشتاء, والهواء قارس البرد, وهملت وهوراشيو وزميلهما ينتظرون ظهور الشبح. وفجأة وقع نظر هملت على شبح أبيه أو روحه, فاستولت عليه الدهشة, وتملكه الرعب والهلع. الشبح: اصغِ إلي .. هملت: ناشدتك الله تكلم. الشبح: قد دنت الساعة التي يجب علي فيها أن أرجع إلى النيران الكبريتية المليئة بالعذاب. هملت: ويحك من نفس .. الطيف: لا ترثِ لي. بل استمع إلى ما سأبوح, وأعره جانب الاهتمام هملت: تكلم إني لسميع. الطيف: وأنك أيضاً لآخذ بالثأر بعد أن تعلم. هملت: أي ثأر. الطيف: أنا روح أبيك قُضِيَ عليَّ أن أهيم في الليل, وأن أَحومَ في النهار, مصطلياً سعير النار بما اجترحت من الآثام ريثما أتطهر من أدرانها, لو لم يكن محظوراً عليَّ أن أفشي أسرار سجني لقصصت عليك ما يُضَعضِع النفس, ويجمد الدم, ويُخرج العينين من الوَقبَين. ويشتت الضفائر حتى لتقوم كل شعرة من شعرك على ساقها قيام الشوك على جلد القنفذ الخائف, لكن هذه الأسرار الخلودية لم تكن لتفشى بمسمع من لحم ودم. فانصت. لئن كنت قد صدقت يوماً بحبك لأبيك ... هملت: بالله الطيف: انتقم له من قتله شنيعة قتلها هملت: أمت قتيلاً؟ الطيف: قتلة مفظعة تفظيعاً لم يسمع بمثلها الناس. هملت: عجّل في إخباري لأطير بأجنحة سريعة كخطرات الفكر أو سنحات الآمال الغرامية إلى انتقامي ويصف الشبح لهملت كيف أغتيل ظلماً وغدراً والطريقة التي اغتيل بها. الطيف: إنني كنت نائماً في بستاني كمألوفي بعد الظهر كل يوم, فاندسَّ عمك في خلوتي, ساعة أمني, وراحتي, وبيده قارورة من ذلك العصير الملعون المعروف بالجيكويام, أفرغ منها سماً زعافاً في أذني, ذلك ما أصابني في نومي بيد ((أخي)), فحرمت حياتي وتاجي ومليكتي, وقضيت نحبي. لئن تكن فيك بقية من سلامة الفطرة فلا تتحمل هذا. لا تدع مهداً لدانمرك الملكي مهداً للشبق والخفا, وأياً يكن السبيل الذي تسلكه لهذا الانتقام فلا تلوث فكرك, ولا تأذن في داخلتك لأي سانحة تمسَّ والدتك, دع لله عقابها, وللأشواك التي تنمو في صدرها, ولن تألوها وخزاً وإيلاماً, أودعك لغير مآب. سلاماً, سلاماً, سلاماً, وإياي فاذكر. ( يخرج) وهكذا تكشفت لهملت أوجه الحقيقة والصواب, ووجد الجواب على أسئلته الكثيرة الحائرة. فماذا عساه يعمل؟. وأي المواقف سيتخذ من ذلك كله؟.. هملت: يا جيوش السماء, أيتها الأرض, وماذا أنادي بعد؟ أأناديك يا جهنم؟ رويدك يا قلبي, سأمحو كل ما اقتبسته من حكم الأسفار, سأمحو كل الصور والأثار التي أفادني إياها الشباب والاستقراء, ولن يبقى في كتاب عقلي كلمة واحده, سوى وصيتك الشريفه, كذا وأيم الله. ياللمرأة .. أفسد ما تكون المرأة! ياللمجرم الأثيم ذي الوجه البسام !.. إلي قرطاسي, سأنقش فيه: أن المرء يستطيع التبسم ما شاء التبسم, وهو مجرم أثيم, كتب عليك ما كتب يا عمي, الآن ليكن شعاري ((وداعاً. تذكرني, أقسمت لآخذن بالثأر.)) فقد حدد هملت موقفه من تلك الشرور التي ارتكبها عمه, فإنه سينسى كتبه وينسى كل ما علق في ذهنه من آثار العلم والاستطلاع. ويثأرلأبيه من عمه الخائن. وأفاق هملت من الغموض الذي يسود تلك الطبيعة البشرية, وتكشفت له أسرار هذه النفوس البشرية النتنه, فأينما سار واجهه الفساد والشر, فلم ير في هذا العالم المحيط به إلا تمثالاً مجسماً للشرور والمفاسد.. وسئم الدنيا, وكره العالم كله, حين تكشف له أنه عالم قد طغى عليه الشر وسيطر على كل شيء فيه, ولم يبق فيه للخير أي مكان. هملت: إن الزمن لفي اعتلال واختلال. ومن نكد طالعي أن أكون أنا المنوط به علاجه, والعود به إلى النظام. وأحس هملت أن ذلك ثقيلاً عليه, فأراد أن يهرب من تلك المهام التي وكل بها واتخذها على عاتقه .. هرب من كل هذه المسؤوليات إلى دنيا الحب والجمال. فلقد أحب أوفيليا ابنه بولونيوس رئيس الديوان الملكي وكبير مستشاري الملك في شؤون الدولة كلها. فقد أظهر لها حبه في أساليب مختلفه, فهو تارة يرسل أليها الرسائل وتارة يهديها الخواتم, وكتب إليها كتاباً بثها فيه نجواه وأشواقه وما يخفق به قلبه من نار الجوى ولواعج الحب. هملت: ارتابي في أن النجوم من نار ارتابي في أن الشمس تدور, ارتابي في أن الحقيقة تلابس أحياناً الكذب, ولكن لا ترتابي أبد الدهر في حبي. أنا لا أحسن التقيد بالشعر وأعاريضه وتعداد أهميته, ولكن ثقي أنني أهواك هوى يملأ جوارحي, ثقي- ولك الله – أني أسير غرامك أيتها السيدة العزيزة ما دام هذا الجسم الفاني في تصرفه. ونجد في هذه الرسالة عبارات شاذه غير مألوفة, وربما كان ذلك كي يتفق أسلوبها وتفكيرها مع ما يدعيه من جنون, ولكنها لا تخلو من عبارات واقعية صادقة, بعيده بعداً تاماً عن الشذوذ والجنون. قلنا .. ليتفق اسلوبها وتفكيرها مع ما يدعيه من جنون. نعم .. إن هملت بعد أن رأى طيف أبيه, استولى عليه الرعب وسيطر على أعصابه, وأوشكت موازين عقله أن تختل. فخشي أن يبدو منه ما يدل عمه على أنه يعرف سره, فيكون ذلك مدعاة لمراقبته في حركاته وسكناته, فقرر أن يتصنع الجنون. ولكن ... هل كان في كل المواقف التي يبدو فيها مختل القوى يتصنع الجنون ؟.. سؤال نجيب عليه بالنفي, فإننا سنجد أن هملت يتعرض إلى (كريزات) جنونيه حقيقية فيما بعد. وهكذا هرب هملت من عالم الانتقام إلى عالم الحب. وهل يتفق الحب والانتقام؟ هل يتفق الحب برقته وعزوبته وصفائه, مع الانتقام الذي يملأ النفس بالضغينة ويملأها بالقسوة.؟ هكذا انطفأت جزوة نار الحقد والثأر لأبيه ... ويفوق هملت من غفوته ليرى أنه مقصر جداً في حق أبيه .. فيشرع بتقريع نفسه واستثارتها من جديد .. هملت: ويحي من هزأة بليد, تبّاً لي من أثيم وضيع, وشجاع دعيّ, فغاية ما دافعت به عن أب حبيب, وملك عزيز, نُكِبَ أشد النكبات, هو أنني أهذي هذيان الحالم, مع أن شاغل الانتقام مالئ نفسي. أجبان أنا؟ من ذا الذي اسمعه يسخر مني؟ ويقول لي: يا ضحكه. من ذا الذي اعترضني الآن في الطريق؟ فنتف لحيتي ونفخها في وجهي, من ذا الذي جذبني من أنفي؟ أكذا إقدام الولد الذي قتل أبوه فاستصرخه للثأر له ؟!!.. وهنا نجد هملت يطلق على نفسه كل هذه الأحكام التي تنعته بالجبن. فهل هذا مجرد دافعاً لعواطفه, أم إفصاح عما يحسه هملت في قرارة نفسه؟ إنني آخذ بالرأي الثاني, لما يتخذ هملت من مواقف إزاء ما واجهه من أحداث. فهملت بتردده هذا يشعرنا بأننا نقف أمام ضعف إنساني لأنه يواجه عمل أكبر مما في طاقته, وهذا الضعف يتمثل في عمل خاطئ من نوع لا مثيل له, فهو يتردد ويتوانى في تنفيذ ما عزم عليه, وتردده وتوانيه سيسوقاه إلى كارثة كما سنرى. وإلى جانب الصراع الخارجي بين هملت وبين القوى التي يفكر في محاربتها, نجد صراعاً أقوى وأعنف في عقل هملت بالذات, وهكذا فهو يصارع في جبهتين, ويعزم على الهزيمة بالتخلص من الحياة. وبينما هو في دوامة هذا الصراع العنيف, الصراع الناشب بين عاطفة الانتقام, وربما عاطفة الحب, في حربهما ضد حالة معينة يسميها هملت (ديناً أو عقيدة) وهي ما قد نسميه نحن وسواساً أخلاقياً. وإذ به يفاجأ بدسيسة أخرى, وأية دسيسة؟ إن حبيبته أوفيليا البريئة إحدى العاملين فيها دون أن تعلم بشئ مما رسمه أبوها ودون أن تعرف ما سيحدث نتيجة تصرفها هذا. فوالدها يدعوها إلى أن ترجع لهاملت الهدايا التي قدمها لها, ويختبئ مع الملكة والملك عندما يرون هملت قادماً. يلمح هملت اختفاءهم ويعرف أن وراء ذلك أمراً ما. ووسط هذا الجو المكفهر يحتار هملت ويرتبك ارتباكاً شديداً .. ماذا يعمل ؟.. كيف يتصرف ؟.. ماذا يعمل أزاء المذلات والمشقات, وتطاول الرجل المتكبر, وشقاء الحب المرذول, وابطاءات العدل, وسلاطة السلطة, وقحة القدرة, وأمام الكوارث التي يبتلي بها الحب الصحيح والمجد الصريح بفعل الجهلة وتهجم السفلة ..؟!!.. وتبدأ الأخيلة والظلال السوداء تشع من فكر هملت معبرة عن هذه الحياة الدنيا, الحياة التي أصبحت بغيضة لهملت .. فلقد نسي الانتقام ونسي كل شيء في الحياة الدنيا, وأخذ يجول بعيني خياله لحظة عابرة في العالم الثاني ذلك البلد المجهول, الذي لم يستكشفه باحث, ولم تتخطّ تخومه قدم سائح. فهو يتساءل .. هل من الخير للإنسان أن يستمر في بقائه في هذه الدنيا ليناله مزيد من ارتعاد المفاصل, ومن غصص الآلام وعذابات النفس, أم يخرج الإنسان من هذه الدنيا التي لا تستحق أن يبقى فيها .. - أكائن أنا, أم غير كائن؟ تلك هي المسألة, أي الحالتين أمثل بالنفس؟ أتحمل الرجم بالمقاليع, وتلقي مهام الحظ الأنكد؟ أم النهوض لمكافحة المصائب ولو كانت بحراً عجاجاً. وبعد جهد الصراع إقامة حدّ دونها, الموت, نوم, ثم لا شيء. نوم نستقر به من آلام القلبِ, وآلاف الخطوب التي وَكِلَتها الفطره بالأجسام, ونخشاه على أنه حقيق بأن نرجوه, الموت رقاد, رقاد وقد تكون به أحلام, آهاًً .. هذه عقدة المسألة! إنما الخوف من تلك الأحلام التي قد تتخلل رقاد الموت بعد النجاة من آفات الحياة, هو الذي يقف دونه العزم, ثم هو الذي يسومنا عذاب العيش, وما أطول مداه, أذ لولا هذا الخوف, لما صبر أحد على المذلات والمشقات الراهنه, ولا على بغي الباغي, ولا على تطاول الرجل المتكبر, ولا على شقاء الحب المرذول, ولا على ابطاءات العدل, ولا على سلاطة السلطة, وقحة القدرة, ولا على الكوارث التي يبتلي بها الحب الصحيح, والمجد الصريح, بفعل الجهلة, وتهجم السفله. وهنا يوازن هملت بين حالتين .. حالة استكانته لما نوّح به من آلام ومشقات .. وحالة التخلص من ذلك التاج وركله بالقدم, وذلك بالتخلص من الحياة ... ويبدأ بما أوتي من علم وثقافة بالتحدث عن الموت وفلسفة الموت وعالم ما وراء الطبيعة. وا رحمتاه لتلك الأحلام التي تتخلل رقاد الموت بعد نجاة من آفات الحياة .. لقد حملها هملت من الذنوب مالا طاقة لها به, لأنها وقفت حجر عثرة في طريقه – كما يقول– وأثنته عن عزمه بالتخلص من الحياة ... وكأن روح أباه أوصته بالتخلص من الحياة إرضاء لها .. وكأن هذا هو الثأر الذي طالبته به روح أبيه, أو أن موقفه من الخطوب الملمة به يقتضي الموت !!.. ويحك يا هملت .. أين ثورة الشباب؟ أين الدم الملكي, أين حقوق والدك المغدور؟ أين شعارك: ((وداعاً, تذكرني, أقسمت لآخذن بالثأر)). إن هملت يبدو مختلفاً عن الناس. والذي جعله مختلفاً عن الناس جميعاً إلى جانب ما كان ينتابه من حين لآخر من النوبات الجنونية, هو أنه ارتفع ببصره فوق سد الحياة فأدرك بنظره ما يعج به بطن المستقبل من آلام وويلات كان أبوه يقاسي منها ما يقاسي: فلما عرف ما وراء هذا السد من تلك الآلام والويلات تغيرت حقيقة الحياة في ذهنه, ثم أخذ يمعن النظر في أغوار تلك الحياة الدنيا لكي يحل لغز الوجود ويدرك معناه .. ومن ثمة فقد أخذت المحبة والكراهية, والتقاليد والمراسم التي تغص بها الحياة في البلاط, أخذ ذلك كله يتخذ معاني جديدة مختلفه كل الاختلاف عما كان يعرف هملت من قبل .. ثم ما لبث أن واجهته تلك المشكلات المحيرة والتي ألقى والده بوزرها على كاهله, فاسلمته للحيرة والارتباك والخبل .. فكان الضحية التي تكفر عن ذنوب البشر .. لقد فقد حبه, فقد حبيبته أوفيليا ابنة الماء كما كان يلقبها, نتيجة تصرفه الجنوني الأحمق معها عندما ردت له هداياه التي قدمها لها ... أوفيليا: مولاي, لدي منك هدايا أرغب منذ زمن في ردها إليك. هملت: لا ليست مني, لم أعطك شيئاً قط. أوفيليا: بل هي منك يا مولاي العظيم, ولا ريب أنك تتذكرها, تتذكر الكلمات الطيبات التي أرفقتها بها, دونكها أي مولاي. حقاً أنه شيء مؤثر أن تلاقي محبوبه حبيبها بهذا الشكل .. ولكن .. كان على هملت أن يعالج الموقف بصورة حسنة, وأن يفهم الموضوعات ويسأل عن المسببات التي دعت أوفيليا إلى هذا التصرف ... لم يفعل ذلك. بل جن جنونه وأخذ يقرع محبوبته وينعتها بأقذع الألفاظ. هملت: آهاً .. آهاً .. أأنت عفيفة؟ أوفيليا: مولاي. هملت: أأنت جميلة؟ أوفيليا: ما تعني يا مولاي. هملت: إن كنت عفيفة وجميلة, فحذار أن يكون لعفافك أدنى اتصال بجمالك. أوفيليا: ولكن يا مولاي أيكون للجمال رفيق أفضل من العفاف؟.. هملت: هذا حق, ولكنه يتسنى للجمال أن يحول العفة إلى قوادة سافله أكثر مما يتسنى للعفة أن تصور الجمال على مثالها ... لقد أحببتك قبلاً أوفيليا: أوهمتني ذلك فعلاً يا مولاي هملت: كان ينبغي ألا تصدقيني, إن الأرومة التي نحن منها, وإن لقحت بالفضيلة, لم تفارقها طبيعتها الأصيلة .. لست لك محباً. منتهى القسوة وغلظة القلب, ولا يتأتى من رجل عاقل قط. إذ أنه حتى على فرض أن حب أوفيليا قد فتر فلم يكن من الأدب أن يشتمها مثل هذه الشتائم وأن قول (كريج) بأن هملت أراد إنقاذ أوفيليا مما تضطرب به تلك الحياة الدنيا من شرور وفتن والتحفظ بعد أن تنجو بنفسها آخر الأمر في دير من الأديرة لا يتلائم والسباب الذي وجهه هملت لأوفيليا. إذ لو كان يريد الحفاظ عليها فلماذا لم يتقرب أليها, ويعرف سبب تصرفها هذا, ويكون هو نفسه الدير الذي يحميها.؟. لقد نسي حبه وأفصح بسرعه عن فكرته التي كونها عن المرأة .. ((يا للمرأة أفسد ما تكون المرأة, يا سرعة التحول لو سميت لسميت امرأة )). إن هملت في حديثه مع أوفيليا ومعاملته لها كانت من خلال هذه النافذة. النافذة التي يرى منها المرأة بعين الفكرة التي صورها له عقله. ويرجع للتفكير في الانتقام ويعقد العزيمة على التنفيذ, ويذهب لقتل عمه, فيفاجئه وهو يصلي, وكانت فكرة سانحة لقتله, ولكن تفكيره المريض يصرفه عن المضاء في عزيمته ظناً منه أن عمه يناجي ربه, وما كان في الحقيقة يناجي غير الشيطان. وتنتابه الوساوس والظنون مرة أخرى في حقيقة الطيف الذي قابله ... هملت: قد يكون الروح الذي رأيته شيطاناً, وللشيطان أن يبدو في كل شيء يختاره, فأخشى أن يكون قد حاول خديعتي من أجل ضعفي واستمرار كآبتي. ويفكر بإيجاد دليلاً واضحاً يكشف به عمه, ويهتدي إلى فكرة تمثيل مقتل أبيه – بواسطة الفرقة التي أعدها له صديقاه – أمام عمه والحاشية الملكية, لكي يرى أثر تمثيل الجريمة في وجوه المجرمين, فلما أفلحت الخطّة وتأكد أن عمه هو القاتل لما انتابه من زعر أثناء التمثيل. ظننا أنه سينتقم في الحال, فإذا به يضعف وينكص على عقبيه ... وأمام هذا التردد والضعف والوهن في العزيمة نتساءل ... ما الذي جعل هملت يتردد كل هذا التردد, رغم أتاحة الفرصة له في مناسبات عديده, ورغم أنه تحقق وتأكد بأن عمه هو قاتل أبيه ..؟ إن قراءات هملت واطلاعه وثقافته, وتفكيره فيما وراء الطبيعة وتدينه وخوفه من العقاب هو الذي أضعف عزيمته وجعله خائراً متردداً. وقد تعرض كثير من النقاد لموقف التردد الذي يقفه هملت من عمه قاتل أبيه. فمثلاً يفسر أحد النقاد ذلك التردد بأنه مجرد احتيال من شكسبير لتستمر حوادث الرواية ... ويفسره آخر بأن الانتقام في ذاته يتطلب الحيرة المتصلة التي يتوقف معها كل تنفيذ ... وثالث يبرره بالصعوبات العملية التي كان على هملت أن يذللها حين يبرهن الأمر – أمر القتل– على الجمهور ... أما الناقد العظيم (هازلت) فيعلله بالصعوبة القائمة في هملت نفسه كانسان تحرق نار فكره قوى ساعديه. فهو كإناء جميل كان معداً للزهور الجميلة, وغرست فيه سنديانة ضخمة فحطمته تحطيماً, أو هو نموذج للعقل اللامع والذكاء المستوقد إذا ما هيمن عليهما الضعف البشري والإرادة المشلولة كما يقول كل من (جوت) و(كولردج) و(شلجل). والحق أن هذا التفسير شاع وانتشر حقاباً طويلةً وأصبح فيه هملت مثالاً للعقل (الآكاديمي) الذي يغوص ويحلق ولا يكاد يفعل شيئاً. وهناك العالم النفساني (ارنست جونز) الذي نظر إلى شخصية هملت من ناحية عقدة أوديب واتصاله بأمه... وله في ذلك رأي له قيمته الكبرى, فيما إذا استطعنا أن نثبت أن هملت كان متعلقاً بأمه من الناحية الجنسية... فيقول جونز: لقد أعلن لهملت شبح أبيه أن عمه هو الذي قتله, ليخلفه على عرشه وزوجته. وبدلاً من أن يسارع هملت, هملت الشجاع, الوفي لأبيه, إلى الانتقام من عمه الخائن, نراه يضيع وقتاً طويلاً في التفكير الغامض, وتصنع الجنون, بحيث تمر أحداث المسرحية كلها. فكيف نفسر هذا التردد الطويل ؟.. لقد وقف نقاد الأدب أمام هذا السؤال فريقين: فمنهم من عد (هملت) مسرحية غير ناضجة كالشاعر الناقد الانجليزي (إليوت). ومنهم من فسر المشكلة بأسباب راجعة إلى صعوبة الفعل, أو إلى عجز البطل عن فعله, في حين أن المسرحية نفسها تدل على عكس ذلك, فقد كانت أمام هملت فرص كثيرة لقتل عمه المجرم, ولم يكن يحول بينهما حائل مادي قوي, كما أن هملت لم يكن بحيث يخشى ثورة الشعب عليه إن هو قتل عمه الخائن, فقد كان هملت محبوباً من الشعب, قادراً على اظهار حجته في هذا العمل, أما عن شخصية هملت فإن المسرحية تصوره لنا قادراً على القيام بأعمال حاسمة دون تردد طويل, كما في قتله لبولونيوس والد محبوبته. ولكنه مع ذلك كله يظل عاجزاً كل العجز عن قتل غريمه المجرم, وهو يثور على عجزه أحياناً, ويتهم نفسه بالضعف والجبن, ويتعلل بشتى الأسباب أحياناً أخرى دون أن يستطيع إقناعنا أو إقناع نفسه بوجاهة هذه الأسباب, حتى يقدم على الفعل آخر الأمر شبه مضطر بعد أن علم أنه – هو نفسه – ميت بسلاح خصمه, فيكون اقدامه عليه في هذه الظروف دليلاً آخر على كذب ما كان يتعلل به. ويظل السر في تردده وعجزه الطويل, الذي دارت حوله أحداث المسرحية كلها, غامضاً إلى نهايتها. ويتناول (جونز) المشكلة بمنهج التحليل النفسي, فيلاحظ أولاً أن هذا الغموض كان أمراً لا بد منه, لأنه يعكس غموض الدوافع في تصور الشاعر نفسه, ويفسر هذه الدوافع الغامضة بأنها عقدة أوديب وقد استثارها من مكمنها موت الملك الشيخ. فهملت في أعماق لا وعيه لم يكن يكره فكرة موت أبيه, بل كان يتمناها لينفرد وحده بحب الأم, ولكن موت الأب قد اقترن هنا بأن القاتل تزوج الأم, والقاتل هو شقيق الزوج, فقد أقدم إذاً على اتصال جنسي محرم, شبيه بذلك الذي تتضمنه عقدة أوديب, ولهذا فإن هملت يرى في كلوديوس – عمه وقاتل أبيه, وزوج أمه – صورتين متعارضتين مجتمعتين: أما الصورة الأولى فهي صورته هو نفسه, هملت, لأنه انعكاس للرغبتين المكبوتتين في لا وعيه. وأما الصورة الثانية, فهي صوره الغريم الجديد الذي يغتصب منه حب الأم. وبين هاتين الصورتين لا يستطيع هملت أن يعمل, فإنهما مرتبطتان الواحدة بالأخرى, فلو أطلق هملت العنان لعداوته للصورة الثانية, محققاً في الوقت ذاته ما يمليه عليه الواجب, لثارت الصورة الأولى لتفضحة وتدينه. ولذلك فهو يتمنى لو يتناسى الصورة الثانية (أي لو يتناسى جريمة عمه) حتى تظل الصورة الأولى مكبوتة في اللاوعي. ولكن الواجب لا يرحمه, فشبح أبيه يطالبه بالثأر, ويؤنبه على تراخيه. وإذ يستحيل على هملت حل هذا الصراع نرى أفعاله تتجه اتجاهاً غريباً كأنما يرسمها رسماً لتنبه عدوه أليه, وتستثيره لقتله. وإذا تذكرنا ما سبق أن قلناه عن دلالة النتائج على الدوافع, حكمنا بأن الموت هو غرض هملت الحقيقي. لا شك أن (جونز) في تحليله لشخصية هملت قد استطاع أن ينقله ببراعه تامه من المسرح إلى العيادة السيكولوجيه, ولا شك أيضاً أن هذا النقل يفيدنا كثيراً في فهم شخصية هملت, ويكشف عن جوانب هامه من الصدق النفسي في بنائها, وقد كان من الممكن أن يزيدنا استمتاعاً بالمسرحية لولا أمران عظيما الأهمية: الأمر الأول: أن وفاء هملت لذكرى أبيه, وإعزازه له كمثل أعلى – أي حبه له – تأخذ صورة الواجب البغيض في تحليل جونز. ولا شك أن أذهاننا قد امتلأت بتصوير ((الأنا)) على أنه قوة كابته, والليبيدوعلى أنه قوة مكبوته حتى أصبحنا في حاجة إلى أن ننفض أنفسنا بشجاعه من هذه المفاهيم الفرويدية, ونتذكر أننا لا نزال نحب آباءنا. وإذا رأينا مع جونز أن أزمة هملت تنطوي على تحريك عقدة قديمة نحو التخلص من الأب, فيجب أن لاننسى أن هذه العقدة تصطدم دائماً بمحبة حقيقية للأب, وبغير هذا الفهم تصبح شخصية هملت شخصية بغيضه, ولاتثير في نفوسنا غير الاشمئزاز كشخصية أوديب في التصوير الفرويدي. والأمر الثاني: أن تحليل جونز لا يرشدنا إلى مصادر اللذة التي نجدها في تراجيدية شكسبير, فإذا كانت كل قيمتها للمستمع أو المشاهد أنها تكشف عن ناحية أو نواح خفية من النفس البشرية, فلا شك أن تحليل جوبز أمتع منها كثيراً, لأن تراجيدية شكسبير لا تكشف عن هذه النواحي بشيء من الوضوح كما يلاحظ جونز نفسه. ولكن هناك أمر نسيناه ... نسينا أن شكسبير ينادي بأن (الفن للفن), وهذا ما يبتغيه بالدرجة الأولى. ثم هناك مسألة ثانية يجدر بنا أن ندركها, هي خطورة انتزاع الشخصية من السياق العام الذي ترد فيه, وهو المسرحية كلها, وفصل الشخصية عن الاطار الفني الذي لا توجد أو تعيش إلا داخله. فالذي يبعث الحياة في الشخصية أو يضفي عليها معنى وأهمية هو الإطار الفني ذاته ولا حياة للشخصية خارج هذا الإطار. فالشخصية المسرحية تستمد حياتها فقط من العلاقات التي يقيمها المؤلف بينها وبين غيرها من الشخصيات, ولذلك لا يصح أن نتحدث عن طفولة هملت لأن شكسبير لم يصور لنا طفولة هملت, ولم يشر إليها في المسرحية. ولنترك جونز ونأتي لمشاهدة هملت مع أمه ونلاحظ أذا كان ينطبق عليه ما قاله جونز من خلال تصرفه معها. فبعد أن انتهى من تمثيل الرواية التي تمثل مقتل أبيه, انشرح صدره وأحس بالراحة التي يحسها الإنسان عندما يرفع عن كاهله ثقل كان يقضّ ظهره. وبعدها مباشرة أرسلت والدته في طلبه لتتحدث إليه حديثاً خاصاً في مخدعها, ويدعوه بولونيوس للقاء والدته ويختبئ وراء الستار لينقل إلى الملك ما سيجري بينهما. هملت: ما خطبك يا والدتي؟ الملكة: لشد ما أهنت أباك يا هملت. هملت: أي والدتي لشد ما أهنت أبي. الملكة: ويك! أتجيب بلسان فظ؟ هملت: ويك! أتسألينني بلسان خبيث؟ الملكة: ياللعجب! أتدرك ما تفعل يا هملت؟ هملت: وماذا أفعل؟ الملكة: أنسيت من أنا؟ هملت: لا وربي, إن أنت إلا الملكة ... امرأة أخي زوجك, وليت هذا لم يكن, ثم أنت أمي. الملكة: إذن سأبعث إليك بمن يحسن مخاطبتك. هملت: إياك أن تتحركي واجلسي في مكانك ريثما أريك خبايا نفسك بمرآة صادقة. الملكة: ماذا تبتغي مني؟ أتريد قتلي إلي إلي. أنقذوني. بولونيوس: (وراء الحجاب) ماذا جرى, إلينا بالمعونه. هملت: (يخرج سيفه) ما هنا أجرذ من الجرذان ( يضربه من وراء الحجاب) مات أراهن بدينار. بولونيوس: ( من وراء الحجاب) أوه قتلني (يسقط ميتاً) الملكة: ويحي ما صنعت. هملت: تالله لا أدري أهو الملك (يرفع الستار ويجر جسم بولونيوس) لقد قتل هملت بولونيوس. وها قد أقدم على جريمة القتل التي كان يخشاها أشد خشيه ... ولكن ... هل كان هملت يعي ما صنع؟ هل يعرف ما جنت يداه؟ كلا ... لا أعتقد ذلك, لقد كان في حالة هستريه فاقداً زمام عقله, وإلا لما استطاع الإقدام على مثل هذه الفعلة, ونراه يستيقظ من الهستريا التي كان بها مشدوهاً, على سؤال والدته. تالله لا أدري أهو الملك؟ وهنا يتبين لنا أن فكرة قتل الملك ملازمة له في عقله الواعي واللاواعي (أو الباطن) وليس راضياً عن الملك في عقله الباطن لأنه خلصه من غريمه في أمه (أي أبيه) كما يقول جونز. ثم اسمعه يخاطب بولونيوس بقوله: وأنت أيها الحقير الثرثارة الأبله, وداعاً, وداعاً, ظننتك من هو خير منك, فخذ ما قسم كما قسم, وتبين ولو بعد حين, أن الإفراط في الزلفى قد يجر وبالاً إذ كان هملت يظن أن المطعون هو عمه. وحبذا لو كانت هذه المحاولة عن وعي وتقدير وعزيمة, فربما أتبعها بأخرى. الملكة: أي ذنب جنيت حتى تقسو علي هذه القسوة؟. هملت: جنيت ذنباً يدنس الطهارة, ويخضب بالحياء وجه العفة, ذنباً ينزع الوردة من جبين الحب, ويضع مكانها قرحة, ذنباً يعيد عهود الزواج مكذوبة كأقسام المقامرين, ذنباً يجعل العقد جسماً بلا روح, ويجعل الدين لفظاً بلا معنى. حدقي في هذين الرسمين, وقابلي ملياً بينهما, أهذا البشع يشبه بذاك الجميل؟ أهذا الصعلوك يشبه بهذا المليك ؟ لو كان البصر بلا سمع, والسمع بلا لمس, واللمس بلا شم, بل لو لم يكن لنفسك إلا أدنى جزء من الحس, لما أجار لك أن تؤثري هذا الوغد الذميم, على ذاك السيد العظيم, ثم إنك لست في مقتبل الصبا وليس لك عذر الغرام في شرخ الشباب, إن الدم لتخمد حرارته في مثل سنك هذه, ويدع الكلمة العليا للعقل. يتبين لنا من ذلك كله أن هملت لم يبد أي تصرف يدل أن هناك ميلاً في نفسه نحو أمه من الناحية الجنسية, بل كان بمثابة الواعظ العاقل, مستبشعاً جريمة أمه. ولو كان هملت متعلقق بأمه لما تأخر هنيهة عن إحباط علاقتها مع عمه بالقضاء على أحدهما قضاء تاماً كما تقتضي الأسس والدوافع النفسية لذلك الميل. وبعد ذلك علنا نستطيع أن نثبت على رأي في هملت ... وأعتقد أننا نستطيع أن نقول: أن هملت هو كل من فكر وحزن لمصائبه ومصائب الآخرين, وكل من ولد وولدت معه عين التفكير الثاقب, والإرادة الشلاء, ثم فكر في الكون أكثر مما يستطيع, وكل من أحسّ بغصة الحب الفاشل تلهب قلبه وجوانحه, ومن تصدعت نفسه بالقوانين الأرضية وقصورها, وبسفاهة الحكام واستبدادهم. ومن أحس بما يقاسيه ذو الفضل النجيب الصابر من الأنذال الجبناء. أجل وكل من شعر بعقله يتلاشى في نفسه, وبالحزن يعلق بشغاف قلبه, وبأعواد آماله تجف وتزوي, وبشجرة شبابه تتزعزع وتترنح أمام الأشباح المزعجة. ومن لا يجد مهرباً للراحة مما يرفرف حوله من أطياف الشر والأذى. ومن قد التهمت نار فكره قوى ساعديه, ومن يلوح له الوجود غير محدود وهو فيه لا شيء ... أجل كل أولئك هم هملت الحقيقي والذي جعله يتوانى في الانتقام ما هو إلا تفكيره المريض, تفكير رجل التهمت نار فكره قوى ساعديه. فنجده يفقد أعصابه من فترة لأخرى. ونلاحظ الخلل في قواه العقلية من حين لآخر. والاستكانة والرضوخ للضربات القاسية المتوالية عليه. فها هو عمه يقرر إرساله إلى انكلترا للتخلص منه فيوافق على ذلك دون تحريك ساكن. ثم يكتشف مؤامرة عمه التي دبرها للتخلص منه وهي ذبحه أثناء وصوله إلى انكلترا, وتشاء الظروف أن يرجع هملت إلى الدانمرك مرة ثانية على أثر حادثة قرصنة في الطريق. ويرجع ليجد حبيبته أوفيليا قد فارقت الحياة حزناً على أبيها الذي مات على يد حبيبها. ويقف مكتوف الأيدي إزاء هذا كله. وينتشله من سباته (لايرتس) أخو أوفيليا فقد أراد هذا الأخير أن يقضي عليه لأنه قتل أباه وتسبب في انتحار أخته, وكان موقف لايرتس منه جديراً أن يذكره بالانتقام لوالده. فبعد كل ما عرفه من حقيقة عمه الوضيع وما دبر له من مكائد, بعد كل ذلك يسأل صديقه هوراشيو إذا كان من العدل والضمير أن يقتله أم لا. هملت: (لهوراشيو) ما قولك في ذلك الذي قتل أبي؟ وأفسد أمي؟ وحال بالانتحاب بيني وبين آمالي, وألقى أشراكه ليودي بي بخبث, ناهيك به من خبث, ألا يوجب علي العدل والضمير أن أقتله بيدي هذه, فأنقذ البلاد من علة صائرة بها إلى الدمار؟ أهذا تساؤل رجل ذا عزم وإرادة؟ لا إنه تفكير إرادة شلاء واهنه. ولتظل يا هملت راقداً بجانب الأفعى تدغدغها من حين لآخر حتى تقضي عليك بلدغة تنفد كل ما عندها من سم في جسدك الضعيف الخائر. وهذا ما حصل بالفعل ... فقد استغل عمه ثورة لايرتس وحرضه للقضاء على هملت قاتل أبيه, ورسم له الخطه: وهي أن يبارزه مبارزة حرة شريفة, وما عليه للتخلص منه إلا أن يسم سيفه الذي سيبارزه به. وما هي إلا خدشة بسيطة يتركها في جسده حتى يقضى عليه. ويستجيب لايرتس لهذه الخطة المحكمة وتبدأ المبارزة, ويحتاط الملك للقضاء على هملت فيعد شراباً للمبارزين والمتفرجين من رجال البلاط ويضع سماً في الكأس الذي سيشربه هملت إذا ما خرج من المبارزة حياً. وأثناء المبارزة جرح كل من لايرتس وهملت بعضهما البعض بالسيف المسموم إثر تبادل السيوف حسب قوانين المبارزة. وفي تلك اللحظة صرخت الملكة صرخة مدوية, وأعلنت في ذعر أنها سقت سماً, والواقع أنها تجرعت من الكأس المعد لهملت. وأدرك لايرتس أن في الأمر خيانه, واعترف لهملت بأمر السيف المسموم وأطلعه على خظة الملك .. فها هو ذا هملت يدرك أن أجله قد دنا, وأنه لم تبق له في الحياة غير أنفاس معدودة, فماذا هو فاعل؟ لم يتردد في هذه الآونة, وهجم بالسيف المسموم فجأة على عمه الخائن, وطعنه طعنة نجلاء كانت القاضية, والوفاء بوعده والثأر لأبيه. والحقيقة أنه لا يصح أن نعتبر أن قتله لعمه وفاء بوعده لأنه تم تحت تأثير الشعور بالنهاية, وتحت تأثير أنفاس الموت. وهكذا قضى هملت والملك والملكة ولايرتس أثناء المبارزة وانتهت مأساء شكسبير الخالدة ... وبعد ... هذه لمحة خاطفة عن شخصية هملت, ذلك الشخص الذي وكلّته الأقدار ما لا طاقة له به, مما قاده إلى ذلك المصير المشؤوم. ذلك الرجل الذي أراد أن يطهر الأرض من الفساد, ويجد أسرار الحياة التي يحياها الناس في هذه الدنيا ... لكنه .. وجدها بين براثن الموت. وقبل أن أنهي كلامي سأتكلم قليلاً عن الصلة بين شكسبير وبين هملت وإلى أي مدى يصور أحدهما الآخر. كانت مأساة هملت هي أولى مآسي شكسبير الخالدة التي كتبها الشاعر بعد تلك الحقبة من الزمن التي كانت نفسه فيها تضطرب بظلمات من الحزن على وحيده (همنت), ولعله اختارها بالذات لما صادفت من هوى في نفسه لجامع المشابهه بين الاسمين: هملت ... همنت. فكيف أودع شكسبير ما كان يضطرب في نفسه في شخصية هملت ..؟.. لقد رأينا أن هملت يشكو ظلم الطبقة الراقية وصلفها, وهو ما كان يلمسه شكسبير من هذه الطبقة التي كانت ترتاد مسرحه وتشهد تمثيلياته. ثم تفكير هملت في الموت, وماذا عسى أن يكون وراءه؟ إنه تفكير كرجع الصدى مما كان يلم بشكسبير من وفاة ولده. ثم نجد هملت يعرض بالنساء عامة, وهي صورة كانت تداعب ذاكرة شكسبير عن زواجه الأول المبكر وما لقيه من تعاسة لم يطق معها إلا الفرار, ولعل شكسبير قد أنطق هملت بما كان يجول في ضميره هو من ضيق لما كشف من خيانة حبيبته التي خانت حبه مع حبيبها الشاب, وهذا ما شكا منه هملت حين أحس فتوراً في حب أوفيليا. ثم ذلك الدرس الطويل القيم الذي ألقاه هملت على الممثلين في المشهد الثاني من الفصل الثالث: أليس هذا ما كان يفعله شكسبير مع الممثلين العاميلين معه في زمانه. ثم لا ننسى ما أجراه شكسبير على لسان هملت. ((يالهذا الزمان الفاسد المضطرب الذي قدر علي أن أولد لأقيم أعوجاجه )). وهل شكسبير إلا الأديب الشاعر الذي خلقه الله ليقيم ما فسد من الأحكام في طويل الأيام والزمان ؟... مكبث ... مكبث ... إن بحر شكسبير مليء بالصدف واللآلئ. ومن بين هذه اللآلئ ذكرنا الدرة الخالدة (هملت) وتكلمنا بإيجاز عن بطلها المسماة باسمه. ولنمتع الفكر والخيال والشاعرية بإلقاء النظر على درته الثمينة مكبث. وماذا أقول في مسرحية مكبث. إذا كنت قد ذكرت في مقدمة الكلام عن هملت بأنها مسرحية من أعظم المسرحيات العالمية, فإنني أقول هنا إن مكبث من أعظم ما كتب شكسبير. وذلك لما تمتاز به من الحبكة المسرحية الرائعة ومما تحتويه من العواطف القوية, وعنصر الخيال الذي يلهب هذه العواطف من حين لآخر ويضفي على المسرحية جو شاعري جميل. أراد شكسبير أن يصور غريزة الطموح وحب السيطرة والملك, وتطور هذه الغريزة من الطموح إلى الطمع ثم الجشع فأبدع في تصوير ذلك كله في شخصية مكبث وقرينته ليدي مكبث. وملخص الرواية أنه كان على عرش اسكتلنده ملك وديع طيب القلب اسمه (دنكمان) وكان له ولدان هما (ملكولم) والآخر (دونالبان) وفي الوقت نفسه كان يعيش في البلاد رجل عظيم من النبلاء يدعى مكبث, وكان هذا النبيل من أقارب الملك, وله مكانة عظيمة في البلاط, اكتسبها بشجاعته وبأسه في الحروب, وكان ينشب بين الملك وجيرانه من الحروب ما تدعو إليه طبيعة التنافس, وما تدفع إليه منافسة المجاورة وفي يوم من الأيام نشبت ثورة في بعض أنحاء المملكة بمعونة ملك (النرويج). وقد تمكن قائداه النبيلان مكبث وبانكو من إخماد هذه الثورة, وأحرزا فيها نصراً عظيماً لوطنهما اسكتلنده. وتبدأ المسرحية بثلاث ساحرات عجائز, يمثلن إلى حد ما العناصر الخفية التي تتدخل في مصير الانسانية, إنهن يظهرن بمظهر النسوة العجاف, ساحرات, باليات الجلود والأطمار, غريبات الحركات والأطوار. ونعرف من حديثهن الغامض أنهن يدبرن مكيده لبني الإنسان, ولمكبث بالذات. فهن ينوين الوقوف في طريقه بعد المعركة, وآخر كلمات لهن قبل أن يختفين. ((إن القبح لنا جمال, والجمال لنا قبح, وليكن الضباب والهواء القذر مجالنا الذي نحلق فيه)). فَنُحِس من هذه الكلمات بأننا إزاء عالم ستنقلب فيه القيم ظهراً على عقب. عالم يعتبر فيه الجمال قبحاً والقبح جمالاً, وقبل أن نسترد صوابنا بعد مشاهدة هذه المخلوقات الغريبة المخيفة, يظهر الملك وحاشيته في معسكر بالقرب من مدينة فورس ويصيح حينما يظهر على المسرح أمام عينيه, جندي مضرج بالدماء أتى لاهثاً من المعركة ((أي رجل دام هذا)) فنجد في مظهر ذلك الرجل المضرج بالدماء, وفي تساؤل الملك هذا رمزاً آخر يضيف إلى جو المسرحية إننا سنعيش بعض الوقت في عالم تغلب عليه الدماء والضباب المعتم, والهواء القذر. وها هو مكبث مع بانكو قادمان من المعركه مكللين بالنصر بتجاذبان أطراف الحديث. مكبث: لم يمر بي يوم أروع من هذا اليوم هولاً وجمالاً. وهنا نجد الارتباط بين كلام مكبث, وكلام الساحرات, وكأن هذا الصدى اللفظي يربط بين الطبيعة البشريه, وما بعد الطبيعة, بين ما في نفس مكبث, وما تفوه به الساحرات. ونستنتج من ذلك أن تلك الساحرات هي النقطة المركزية لأحلام مكبث الشاسعة, كما أنها الرموز الحية لعالم ما فوق الطبيعة المحدق بالعالم الطبيعي. وفجأة تراءت لأعينهم الساحرات الثلاث, باليات الجلود والأطمار, غريبات الحركات والأطوار. مكبث: تكلمي إن تستطيعي الكلام. من تكونين؟ الساحرة الأولى: سلام أي مكبث, سلام يا غطريف ولاية (جلاميس) وسيدها. الساحرة الثانية: سلام أي مكبث, سلام يا غطريف ولاية (كودور) وسيدها. الساحرة الثالثة: سلام أي مكبث, ستكون ذات يوم ملكاً. وزعر مكبث من هذا الكلام على عذوبة وقعه من المسامع, وسرت في جسمه قشعريرة عندما طرقت أذنيه تلك النغمة التي داعبت إحساسه طويلاً. ((ستكون ذات يوم ملكاً.)) وعجب بانكو لهذه النبوءات, لأنه لا نصيب له من هذه النبوءات. فسألهن سؤال من لا يرجو منهن الإحسان, ولا يخشى منهن الإساءة. فأجبنه. الأولى: سلام. دون مكبث وأعلى منه قدراً الثانية: سلام. أقل منه توفيقاً, وأعظم منه توفيقاً الثالثه: سلام. ستلد ملوكاً, ولن تكون أنت ملكاً, فيا مكبث ويا بانكو سلام عليكما. ولكن مكبث يستوقف الساحرات, ويطلب منهن الإفصاح عما في ضمير المقادير, وهو مذهولاً لهذه الأقوال, إنه يعلم أنه قد أصبح ((سيد جلاميس)) بموت أبيه, ولكن كيف يستطيع أن يكون ((سيد كودور)) على حين أن صاحب هذا المنصب والملقب به ما زال حياً, في إقبال من دَهرِه. بيد أن الساحرات لا يجبنه بل يتوارين عن نظره. وسكر مكبث بخمرة الطموح المعتقة, وبدأ يحلق بخياله في آفاق الملك والعظمة, وبينما هو ساع في بحر آحلامه يداعبه الأمل, وتتراقص أمام عينيه مصابيح المستقبل, يصل رسل الملك, رس, وانجوس. أنجوس: إنا موفدون إليك بما جاش في صدر مليكنا الجليل من الشكران, ومبشروك بأنه بالغ في إعلاء قدرك, فأزمع من غد زيارة قصرك. رس: ثم أمرني بأن ألقبك بلقب غطريف (كودور), فأذن أيها البطل المغوار أن أحييك بتحية هذا المنصب الجديد. مكبث: إن غطريف(كودور) لحي فلماذا تلبسونني كساء غيري؟ أنجوس: كان حياً, ولكن جاء الساعة نبأ قتله, فأضاع لقبه وحياته كليهما, بحكم أوقعه عليه الملك لمُمَالَأَتِهِ الأعداء ثبوت الخيانه الكبرى عليه. وينتشي مكبث بهذه الكأس الأخيره, وينفرد لنفسه يلقي نظره على مكنوناتها وتبدأ أمانيه تطفو من القاع الدفين ... مكبث: بالأمس غطريف (جلاميس) واليوم غطريف (كودور), والآتي في الغد أعظم. نبوءتان تحققتا, فكانتا فاتحتين سارتين لمأساة موضوعها العرش. وتبدأ بذرة الاجرام يغذيها الطمع بالتفتح والنمو في نفس مكبث. مكبث: فما بالي تخالجني أمنية يقف لهولها شعر رأسي, ويخفق من وجلها قلبي خفوقاً يقلق الضلوع, لمشهد الشيء أقل إرهاباً مما يخلق الوهم, وإن فكري الذي لم تزل نية القتل فيه خيالاً مخيلاً لينل مني عرش النهى ويزعزع في نفسي مملكة القوى حتى ليفل العزيمة, ويغلب الآمال على النشاط للأعمال, فإذا أنا والحاضر عدم, والمستقبل هو الوجود. إذا أراد الاِتفاق أن يجعلني ملكاً ففي وسعه أن يتوجني بلا مسعاة مني. ليكن ما هو كائن, مهما تكفهر وجوه الليالي العصيبه فإن الساعة لتجيء, وإن الميقات لهو آت. وينزع مكبث إلى تصديق النبوءات وإلى الاعتقاد بأن الأقدار الآن تعينه على تبؤ العرش. ويجد مكبث أمامه طريقان يتوجب عليه السير في أحدهما ليصل إلى العرش – تلك الأمنية التي لازمت خياله منذ قابل الساحرات, لا بل قبل ذلك بكثير. – فعليه أن يختارإما أن يسعى إلى الحصول على العرش بقتله الملك, وإما أن يترك الأمور في يد القدر. وهناك فئه من المفكرين تقول إن مكبث كان بوده أن يترك الأمر للأقدار والصدف. وأعتقد أن ما يقوله مكبث يجعل الإنسان يشك في هذا الرأي. مكبث: أيتها الكواكب واري أنوارك لئلا تنفذ أشعتهن إلى خفايا مقاصدي, ولئلا ترى العين ما تصنعه اليد, ثم لا يحل حائل دون إنزال ذلك الخطب الذي تختلج العين فرقاً من رؤيته. ولعل هذا كفيل لأن يؤكد لأن مكبث كان يفكر في إراقة الدماء واغتصاب العرش منذ أمد طويل. إن مكبث معجب جداً بهذا الدور الذي سيلعبه ولكنه لايزال يتعثر في فهم مضمونه وإنه بحاجة إلى مخرج قدير ليرسم له خطوطه النفسية والحركية. ولم يجد مكبث مخرجاً يستطيع أن يقنعه بدوره ويخرجه له إخراجاً سليماً غير زوجته, فليكتب لها ويخبرها بما جد له. ((لقيتهن وأيقنت بعد اختبارأنهن صادقات, وأنهن يعلمن ما لا يعلم الناس, فلما استزدتهن بياناً توارين في الهواء, نبأنني أنني سأكون غطريفاً (لكودور) فتم لي ذلك على إثر اجتماعي بهن, ونبأنني أيضاً عن المستقبل فقلن لي: سلام يا من سيكون ملكاً, فلم أجد بداً من ابلاغ هذين الأمرين إلى حليلتي المحبوبه, قسيمة مجدي مخافة التباطؤ عنها بمالها من الحصة في المسرة العتيده, وفي المنصّة السنية الموعودة. فإذا عرفت ذلك فاطويه في السريره وعليك السلام.. وما أن طالعت ليدي مكبث هذه الكلمات حتى كادت تطير على أجنحة الأمل إلى المنصّة السنية الموعودة. ويتبين لنا من هذا الكتاب بما لا مجال فيه للشك بأن الزوجين الآثمين قد درسا الموضوع قبل أن تبدو الساحرات لمكبث بأيام طويلة, ومن ثمة فهؤلاء الساحرات هن الأماني المجسمة التي تغازل مكبث نفسه. وتلقي ليدي مكبث زوجها في غمرة الفرحة والتحفز. ليدي مكبث: أي جلاميس العظيم, أي كودور النبيل أي صاحب اللقب الذي سيكون أكبر منهما, إن كتابك قد نقلني على أجنحة الآمال, إلى ما وراء الحاضر, ومحا الزمان إلا المستقبل مكبث: يا حبيبتي إن دنكان لآت. ليدي مكبث: ومتى يبرح؟ مكبث: يبرح غداً ... هذا إزماعه .. ليدي مكبث: لن ترى الشمس طلعة ذلك الغد وأخذت ليدي مكبث تلعب دورها, تحرض زوجها وتغريه ... تلك المرأة السيئة السريره, الشديدة الطموح, التي لا تبالي أي سبيل تسلك ما دامت توصلها إلى غايتها من العظمة والسؤدد. إنها تريد أن تكون ملكة, وذلك بتربع زوجها على كرسي العرش أما كيف يتم ذلك, وما هي الطرق المؤدية إليه فلا تهمها كان نوعها, المهم أن تكون ملكه وفقط. فها هي تلقي على مكبث المحاضرة الأولى من البرنامج الطويل التي أعدته. أظهر يا مكبث لضيوفك بمنظر الزهرة الطاهرة, وكن كالحية المختبئة دونها, لنلق ضيفنا بنهاية الإجلال, ودع لي ما ينبعي فعله في هذه الليلة التي ستكون إلى آخر ليالي الدهر مبدأ تفردنا بالسيادة والسعادة. لكنّ مكبث رغم أنه يريد السلطان والملك – يخشى قتل الملك, لأن إقتراف الجريمة ليس بالأمر السهل, وخصوصاً إذا كانت مثل الجريمة التي يفكر باقترافها, أليس إزهاق الروح من الجرائم التي يماشيها عقابها في الدنيا والآخرة كما يقول. فهو يضع نصب عينيه الجريمه ويزنها بميزان عقله فيضعها في كفة, ويضع الدوافع والبواعث التي تمنعه من ارتكابها في الكفة الأخرى, ويظل يوازن بين الكفتين إلى أن يرجح كفة الجريمة. مكبث: لو أن العمل إذا تم مضى, ولم يعقب شيئاً لكان الخبر في الاسراع والخيرة في الواقع. لو أن جريمة القتل إذا اقترفت لم يكن لنتائجها لفتة سوء إلى مقترفها لكان الأفلاح في الانفاذ, لو كانت ضربة القاتل لا تعقب أمراً في هذه الحياة الأولى, لكان من السهل أن نجاذف بقيمة الحياة الأخرى. ولكن إزهاق الروح إنما هو من الجرائم التي يماشيها عقابها في الدنيا. فمن سفك دم غيره عرّض دمه للسفك, ومن دس سماً في كأس, قضى العدل عليه قضاء لا مرد له بأن يعيد الكأس إلى شفتيه. الرجل هنا يعصمه مني عاصمان قرباه لي, وتبعيتي له, ثم هو ضيفي, ويتعين له علي أن أقفل بابي في وجه من يبغيه بسوء, فكيف بي وأنا أطعنه بخنجري؟ على أن (دنكان) هذا قد تلطف في حكومته واعتدل في سياسته, واستقام في سيرته, حتى أصبح لو امتدت إليه يد بأذى لوثبت فضائله من مكانها وثبة الأرواح العلوية من موطنها, تنوه بذكره, وترتل بشكره, وتثير نفوس القساة والرحماء على قتلته الرجماء, بل لهبت الشفقة أشبه شيء بروح الطفل ساعة مولده, أو بأحد الملائك الممتطين جياداً غير منظوره وأبدت للناظرين شناعة تلك الفعلة, فاستمطرت عيونهم من الدموع ما لو صادف ريحاً عاتية لأهبطها تحت وابله, على أنه ليس لي من باعث على فضاء امنيتي سوى مطمع وثب إلى السرج فجاوزه بقوة اندفاعه وهو في الجانب الآخر. وليس ذلك كله إلا محاولة من مكبث لكي يستسيغ الجريمة التي عليه أن يقترفها. ثم كلام مكبث هذا لا يمنعنا من القول بأن مكبث شرير بطبعه, وإن هذه المناقشة ليست إلا من عمل عبقرية شكسبير, وذلك كي لا يدعنا ننظر إلى مكبث بعين المقت للجرائم الفظيعه التي ارتكبها فهويبرز لنا الجانب الخير في البطل مكبث قبل بدء الجريمة, ويبدي لنا انفعالات في تفكيره لها من القوة ما يكفي لموازنة ما قد تثير الجريمة في نفوسنا من الاشمئزاز. وأثناء ما هو عليه من الاضطراب والهيجان والاعياء العاطفي تدخل عليه ليدي مكبث فيبادرها بقوله: يبدو لي أن نقف من هذه المسألة عند هذا الحد, فلقد جاد الرجل علي بمفاخرة جديده, لبستها لبسة بهيحه, أمام العالمين, ولا يهون على نفسي أن تعرى وشيكاً منها. ليدي مكبث: أكان سكران ذلك الأمل الذي داخلك حيناً, أم نام بعد ذلك, أتخشى أن تسمو أفعالك إلى رتبة آمالك, كذلك السنور الذي قيل إنه يحب الماء ويكره البلل مكبث: لكن ما حالنا إذا لم نفلح .. أي أن مكبث يتمنى أن يرتكب الجريمه, وليس طبعه القويم هو الذي جعله يتردد ويستبشع إقدامه على الجريمة, بل خوفه من إخفاقه وافتضاح أمره. وتردده ليس إلا إتاحة الفرصه لنفسه في رسم الخطة وإحكامها, وإلى أي مدى سيكون نصيبها من الافلاح والنجاح. فعندما ترسم له زوجته الخطة, يفيض بشراً وتنفرج أساريره, لأنه كان يبحث طيلة هذه الفتره عن طريقة لفعل جريمته, ولذا نجده في الفترة الأولى أي قبل اقدامه على الجريمة متعلقاً بليدي مكبث ولا يستطيع عمل شيء دون الأخذ برأيها, وما أن يرتكب الجريمة حتى يصبح عكس ذلك. فنراه يرسم ويدبر المؤامرات بعيداً عن ليدي مكبث. ظل مكبث متردداً حائراً مدة طويلة, فهو يريد الملك, ولكن كيف؟. بقتل الملك. ولكن بأي طريقة؟.. ظل يتساءل وتربكه الأسئلة إلى أن اهتدت ليدي مكبث إلى طريقه, وهي أن يسكرا حاجبي دنكان عندما يكون نائماً في بيتهما ويقتلاه, ثم يلطخا بدمه وجهي الحارسين المخمورين, ويدعيا أنهما قاتلاه لغرض ما, فأبدى مكبث استعداده للقيام بالجريمة ما دامت محكمة الخطة بهذه الطريقة. ويقبل الملك دنكان على مكبث ليثني عليه أعماله البطولية وبلاءه في الحرب. ويأوي الملك إلى فراشه آخر الليل في قصر مكبث. وهنا يقع مكبث نهباً مقسماً بين طمعه, وما يمليه عليه واجب الضيافة, ويستجمع شجاعته, ويشرع بإثارة نفسه, لكي يجرؤ على اغتيال الملك دنكان. إنه يضرب في أروقة قصره المظلمة, ينسرب فيها تارة ويخرج منها تارة أخرى, فهو في حالة, هي مزيج من الهذيان والحقيقة, تختلط فيها الأوهام بالوجود, ففي يده خنجر حقيقي, وأمام ناظريه خنجر يقطر دماً رسمه خياله المحموم وعلقه في الهواء. مكبث: أهذا خنجر يلوح لي متجه المقبض نحو يدي, أنلني منك ما تنضم عليه الأنامل, تفر, ولكنني ما أنفك أراك, ألا يقع عليك اللمس كما يقع النظر, أم لست غير خنجر مخيل من وضع فكر ذاهل مخبل؟! على أنني أجدك – ومنالك من كفي منال هذا الخنجر الذي أجرده الآن من قرابه – تمشي أمامي لتهديني سبيلي وتتمثل بين يدي أشبه بالخنجر الذي كنت عازماً على الطعن به, لعيناي بانفرادهما خير من جميع حواسي الأخر, أو شد ما هما مخدوعتان! إنك لنصب مقلتي لم تبرح, وإني لأتبين منك على الشفرة والمقبض, قطرات دم لم تكن عليهما منذ حين. وهكذا يظل مكبث يشحن نفسه بالشجاعة والاقدام ينتابه المد والجزر حتى انتصاف الليل. انتصف الليل وسيطر على الكون سكون شامل يشبه سكون الموت, وبدأت الأحلام الشريرة تنتاب عقول المستسلمين للنوم, وخلا الفضاء إلا من الذئاب والقتلة. في ذلك الوقت قتل الملك دنكان بطعنة من خنجر وهو نائم آمن. ويخرج مكبث من غرفة نوم الملك بعد ارتكاب جريمته الشنعاء ليلقى زوجته تهمس له بصوت يشبه فحيح الأفاعي. ليدي مكبث: زوجي ؟!.. مكبث: قضي الأمر. ألم تسمعي شيئاً. ليدي مكبث: سمعت البوم يصرح والصرصر يغني. ألم تتكلم؟ مكبث: متى؟ ليدي مكبث: منذ هنيهه. مكبث: حين كنت نازلاً؟ ليدي مكبث: نعم مكبث: انصتي, من النائم في الغرفة الثانيه؟. ليدي مكبث: دونالبان. مكبث: (ناظراً يديه) هذا شيء قبيح الرؤية. ليدي مكبث: من الجنون أن تسمي هذا قبيحاً. مكبث: خيل إلي أن صارخاً كان يصرخ لي ((لن تذوق المنام)). إن مكبث قد قتل الرقاد .. الرقاد البريء, ثم استمر ذلك الصوت الذي ملأ البيت بأصدائه يصيح بي: ((لن تذوق المنام يا قاتل الرقاد, جلاميس, كودور, مكبث لن تنام أبداً.)) فمن هذا الذي سمعاه يتكلم حينما كان مكبث يهبط ..؟ وما هذا الصوت الذي كان يصرخ بمكبث بعد أن ارتكب جريمته؟. هنا لا بد لنا من ملاحظة شيء مهم. ينبغي علينا كما يقول كريج أن نحس في رواية مكبث بالسلطان القاهر لهذه العوامل غير المنظورة. يجب علينا أن نحس ذاك العنصر من عناصر ما فوق الطبيعة الذي يسيطر على الحركة المسرحية من أول المأساة إلى آخرها. وهو الإحساس بتلك الأرواح الخفية المتربصة التي تشبه الموت في استخفائها. ولذا يجب أن نتبين الساحرات بوصفهن أرواحاً أكثر إرعاباً مما يصورهم البعض. ولكي نتصورهنّ مرعبات يجب أن نتصورهنّ إلى جانب ما تَخَيَلَهُنّ (هازلت) بأنهنّ: ((عجائِز حَيزَبونات, عائِثات, قبيحات, يسعين في الأرضِ بالفساد, يأكل الحقد على الناس قلوبهن لعجزهن عن التلذذ كما يتلذذون, مشغوفات بالدماء, لأنهن أنفسهن غير طبيعيات, وعقيمات, لا هن من الأحياء, ولا من الأموات, يترفعن بسبب حرمانهن من جميع الانعطافات الإنسانية, وبسبب احتقارهن لجميع شؤون البشر)). إلى جانب هذا التصور للساحرات, يجب أن يكون احساسنا أننا إزاء فكرة الإله الأعلى, وأن نرى قوة الإله القهار تتمثل في هذه الساحرات, وفي أشباح شكسبير عامة. ونعود إلى ليدي مكبث لنجدها تؤنب زوجها على تلك التخاريف التي يتفوه بها. وتجد أنه لم ينفذ الجريمة بحذافيرها كما رسمتها له, إذ لا زال الخنجران في يديه. فتأخذ الخنجرين لتضعهما في يدي الحارسين. وتعود وقد تلطخت يداها بالدم مثل يدي زوجها ليدي مكبث: (لزوجها) هاتان يداي بلون يديك, ولكنني أخجل أن يكون لي قلب هيّابة كقلبك. والآن بعد أن استعرضنا المواقف الهامة بين مكبث وليدي مكبث في صراعهما العنيف للوصول إلى العرش, تحت سيطرة الجشع البشع الذي لا يعرف الرحمة والرأفة. ماذا يكون حكمنا عليهم؟ فليدي مكبث يبدو أن تصرفها غير طبيعي كما رأينا, فلا ينتظر من أنثى أودعتها الطبيعة مشاعر الانوثة ورقة الإحساس أن تتصرف على هذا النحو, ومن هنا اختلفت الآراء في هذه الشخصية الفذه, فمن النقاد من يعتقد أنها مجرد امرأة قاسية بلا قلب ولا عاطفة بل هي شيطانة, وأنها في الدور الذي تلعبه تشبه الساحرات الثلاث, ويجعلها بعض المخرجين تقف على المسرح أول ما تظهر في نفس المكان الذي كانت تشغله الساحرات, وبالتالي فهي بمثابة ساحرة رابعة في مأساة مكبث. فهي تمثل الشر والاغراء الإنساني, كما أن الساحرات يمثلن الشر الخفي في الوجود. ولعل هذا هو الرأي الشائع. ولكن هل يمكننا أن نقول: أنه لولاها لما أقدم مكبث على الجريمة, وعلى افتراض أنها لم تحرضه وترسم له الخطة, هل كان قد سلك الطريق الذي سار فيه. إن فكرة الملك كانت تداعب خيال مكبث منذ زمن بعيد, وتشده من أنفه وراءها. ووجدنا أنه يريد أن يبلغها حتى لو اضطره ذلك إلى إراقة الدماء. لهذا نجده يضحي بالحياة الأخرى في سبيل تحقيق سعادته هنا ويبيع روحه لعدو الإنسان. وهكذا ليدي مكبث. لكن هنالك اختلاف بين الشخصيتين جعلهما يتصرفان حسب ما وجدنا. فمكبث يفكر ويقيس الأمور بمقياس دقيق فهو لا يريد أن يقدم على الجريمة إلا بعد أن يعرف مسببات الجريمة ونتائجها, ويخاف من ناحية أخرى أن يكتشف أمره. فهو يريد أن يطيل الموضوع حتى يتأكد من نجاح ما هو قادم عليه, بعكس الليدي مكبث التي تريد الحصول على العرش والمجد مهما كانت الوسيلة. أما الملك الطيب القلب دنكان فلم تكن تحس نحوه بأي من أحاسيس الشفقة أو الرحمة. وهكذا نجد أن الفرق بينهما أنها ليست لديها مخيلة زوجها, وإن كانت تمتاز عنه بقدرتها على التفكير العملي, فهي مثلاً في مشهد قتل دنكان كانت محتفظة بقواها العملية على عكس زوجها. فبينما كان زوجها مرهف الحس متوتر الأعصاب لا يعرف من أينَ تأتي الأصوات المخيفة الغريبة في الليل, كانت هي تعرف تماماً أن هذا الصوت ليس إلا صوت البومة, وأن القرع يأتي من الباب الجنوبي وهكذا. بيد أن قدرتها على التفكير العملي هي مصدر ضعفها وقوتها معاً, فلم تحسن تقدير الموقف ولم تتمكن من رؤيته على حقيقته, لأنها تعوذها المخيلة الحساسة التي عند زوجها, إنها لم تكن ترى أبعد من التاج والعرش والصولجان, أما الوسيلة إليهما فلم تكن تتصورها أكثر من عملية قتل بسيطة. وجاء الصباح, ومع مجيئه اكتشفت الجريمة, إذ كان من المستحيل إخفاؤها. وتظاهر مكبث وزوجته بالحزن الشديد, وكانت الأدلة كافية لإدانة الحارسين في الحال, فها هو الخنجر الذي ارتكبت به الجريمة بين أيديهما, ووجهاهما ملطخان بالدماء, ولكن هذا لم يحل دون الشك في أمر مكبث, وأنه هو الذي ارتكب الجريمة أو على الأقل اشترك فيها ودبرها, لأن هناك مغريات تدفعه لارتكابها, وهناك فوائد يجنيها من تنفيذها. في حين لا توجد مثل هذه المغريات والفوائد بالنسبة للحارسين التعسين. أنهما لن يفيدا شيئاً من قتل سيدهما, ولن يجنيا مصلحة. وشعر ابنا الملك الشهيد بما وراء مظهر مكبث وزوجته من حقيقة أليمه, وأدركا أن السهم لا يزال منطلقاً في الجو, فقررا النجاة بنفسيهما, فالتمس أكبرهم (ملكولم) ملجأ في البلاط الانجليزي, ولجأ أصغرهما (دونالبان) إلى ايرلندا, وبذلك تركا العرش شاغراً وآل الملك – طبقاً لقانون وراثة العرش في البلاد – إلى (مكبث) وسرعان ما توج ملكاً, وبهذا تحققت النبوءة الثالثة للساحرات الخبيثات. وبذلك حقق كل من مكبث وليدي مكبث مآربهما وأصبح مكبث ملكاً لاسكتلندا, وأصبحت ليدي مكبث الطموح ملكة, وهذا ما كانا يرجواه. ولكن هناك سؤال ... هل صحيح أن مكبث وليدي مكبث حققا مآربهما فعلاً؟ وهل خمدت عاطفة الطموح وانزوت فكرة الاجرام عندهما؟. الواقع أنهما رغم تحقيقهما ما أرادا الحصول عليه, فإنهم لم يحققا شيئاً. إذ ما قيمة الحياة إذا كانت نهباً مقسماً بين الوساوس والمخاوف, وآلام النفس, والتماس الرقاد بين تباريح الأحلام المخيفة. فتأنيب الضمير يلاحق مكبث كظله ((أما من وسيلة لأنسى نفسي, وأنسى ذنبي.)) ثم خوفه من بانكو ومن أبناء بانكو الذين سيصبحوا ملوكاً, وعجزه عن فهم نفسه, حيث يعزي عذابه النفسي – الذي مصدره, هو وخز ضميره – إلى كونه غير آمن في الملك. كل هذه المخاوف أفقدته ثمرات جهوده الأثيمة. مكبث: ليست العبرة في أن تكون ملكاً, بل العبرة في أن تكون آمناً. أخشى بانكو أشد خشية, فإن به من شارة الإمارة ما يجعله مهيباً رهيباً. فاجأ الساحرات بأسئلته حين بشرنني بالملك, وأمرهن بالإجابة, فعندئذ بشرنه بمصير الملك إلى سلسلة طويلة من أعقابه, وهكذا جعل التاج الذي على رأسي عقيماً, والصولجان الذي بيدي هشيماً, ستنتقل الصولة غصباً من مقبضي, ولن يخلفني ولد من صلبي, فلئن صح ذلك فلأجل أبناء بانكو أكون قد دنست نفسي, ولأجلهم قتلت دنكان الرحيم, أجل, ولأجل أن أجعل أولئك ملوكاً الآن قد دفعت نفسي الخالدة إلى عدو الله. فلكي يضمن الأمن يضطر إلى ارتكاب جرائم أكثر وهذا بدوره يفضي به إلى قلق نفسي أكثر, وهكذا حتى اليأس والنهاية المفجعة. وكذلك ليدي مكبث فإن مصيرها نفس النهاية, فإنها ستنقسم على نفسها وتهذي هذيان المجانين. فكيف يكونا قد حققا مآربهما ما دامت هناك نبوءة رابعة للساحرات لم تتحقق. ألم يقلن أن مكبث سيصبح ملكاً, ولكن أولاده لن يكونوا ملوكاً. ثم ألم يقلن لبانكو أن أولاده سيصبحون ملوكاً دون أن يكون هو ملكاً. وإذا صدقت النبوءات الثلاث فلماذا لا تصدق النبوءة الرابعة. ومعنى هذا أن من سيلبسون التاج بعد مكبث هم أولاد بانكو, ومن أجلهم يكون قد دفع بنفسه إلى عدو الله. آه ... حسنٌ ... لا بد من إفساد هذه النبوءة الأخيرة للساحرات, لا بد من عمل, لا بد من تصرف. وأخذ الزوجان يفكران في الأمر ويقلبانه على جوانبه المختلفة. وأخيراً استقر رأيهما على أن يقتلا بانكو وولده فتبطل تلك النبوءة نهائياً. ولكي يصلا إلى تحقيق ذلك الهدف الجهنمي الاجرامي أقاما وليمة كبرى دعا إليها رجال القصر جميعهم, ولم يهملا واحداً, ولم ينسيا أحداً. وكان من المدعوين بانكو وابنه (فليانس) ولكن الملك الغادر كان قد أرصد لهما على الطريق إلى القصر جماعة من القتلة العُتاة كلفهما بالقضاء عليهما, ونجح هؤلاء القتلة بالقضاء على بانكو فعلاً, أما ابنه فليانس فقد استطاع الهرب والنجاة بنفسه. وعندما حان موعد العشاء والتف الضيوف حول المأدبة, أظهرت الملكة من صنوف الرقة والكرم ودماثة الخلق والعناية بالمدعوين ما ألهج ألسنتهم بالثناء عليها. بينما أخذ مكبث يتحدث إلى رجال الدولة ونبلائها حديثاً ودياً كأنه صديق حميم لهم جميعاً. مكبث: لو لا غياب ضيفنا الرقيق (بانكو) لأظلت دارنا الآن جميع مفاخر الوطن, فعساي أن أعتب عليه التقصير, وألا أساء فيه بمكروه. وما كاد يفرغ من قوله حتى دخل الغرفة شبح بانكو, وجلس الشبح على المقعد الذي أوشك مكبث أن يجلس عليه, ورآه مكبث فامتقع لونه وصاح قائلاً: من منكم فعل هذا؟ (للطيف) ليس لك أن تزعم أنني أنا الذي فعل هذه الفعلة. وتعتري الدهشة المدعوين ويهموا النهوض, لكن الملكة تهدئ من روعهم, وتؤنب زوجها على عمله الجنوني هذا, وتتمكن من أن ترد زوجها إلى صوابه لحظة من الزمن, فيعود إلى ضيوفه النبلاء ويشرب نخبهم كما يشرب نخب بانكو ويتمنى مرة ثانية لو كان حاضراً, فترتسم صورة شبحه مرة ثانية أمام ناظريه وتعاوده نوبة الذعر, ويعجب لأن الحاضرين يرون مثل هذه المناظر من غير أن تمتقع وجوههم كما امتقع وجهه, في حين أنه لا أحد يرى شيئاً. وبعد انصرافهم يقول لزوجته بأنهم ما زالا حديثي العهد بالإجرام وهكذا فإن مكبث الذي كان لا يعمل شيئاً بعيداً عن ليدي مكبث, أصبح الآن يفكر بالجريمة ويرسم لها الخطة وينفذها بمعزل عنها, ودون أن يكون لها علم بما يدبر. فمكبث لم يكن يضع نصب عينيه سوى هذا الطمع الذي يستبد بالانسان .. كما يقول نيتشه – هذه العاطفة الإنسانية التي يسمونها الجشع. ثم أننا نجده قلقاً حذراً, يفكر دائماً بالحفاظ على العرش الذي اغتصبه, لا كما يقول كريج: بأنه رجل قد نوم تنويماً مغناطيسياً. ويخوض مكبث في بحار من الدماء إذ لا يثق في أحد, ويحس أن حياته وعرشه في خطر دائم مستمر. ورغم موت بانكو فإنه لم يطمئن, ولم يهدأ له بال, وفزع إلى الساحرات يستفسر منهن عما تخبئ له المقادير. وتسر إليه الرؤى والأطياف بما يلي: الرؤيا: مكبث. مكبث. اتق مكدف. اِخشى سيد فايف. الطيف: مكبث. مكبث. كن جريئاً رابط الجأش, فاقد الرحمة, فلن يستطيع حي وضعته أنثى أن يضر بمكبث الخيال: كن كالأسد بطشاً وكبرياء, لا تحسب حساباً لمتظلم, أو ثائر, أو متآمر, لن يغلب مكبث حتى تزحف غابة (برنم) على الجبل الرفيع وتهاجم قصر (دنسينان) المنيع. ويسرّ مكبث لهذه النبوءات والنصائح القيمة. فمن ذا الذي يستطيع أن يأمر الغابة فتمشي؟ ياللنبوءة السارة. لله ما أقدرك. وما أجلك يا شكسبير!!.. ويجب علينا أن نمجد فيك العبقرية, ونجل عندك الخيال الشاعري الرقيق. وبملاحظة العواطف التي تسير أشخاص الرواية وتحركهم والعوامل التي تلهب هذه العواطف, بانت لنا العبقرية والخيال الخصب النامي. فالطموح بدأت بذرته تتفتح في نفس مكبث وليدي مكبث للوصول إلى العرش, وتظهر الساحرات فتكون الماء العذب لهذه النبتة النامية. وننسى تأثير الساحرات, لنفاجأ بمكبث وهو يبحث عن الخنجر المعلق في الهواء, ويتلاشى الخنجر لنتذكر نبوءة الساحرات بتحول الملك إلى أولاد بانكو, ثم يظهر شبح بانكو ويختفي. ويتهيأ لنا أن عنصر الخيال قد نضب .. لكن الرؤى والأطياف التي تنبه مكبث وتحذره من مكدف وتوقف سقوطه ونهايته على زحف غابة (برنم). توقظ فينا المشاعر والانتباه إلى ما سيحدث. فهل سيكون مكدف الخطر الذي ينتظر مكبث؟ وهل ستمشي غابة برنم. إن عنصر الخيال الذي يغذي العواطف في مسرحية مكبث, كما هو في جميع روايات شكسبير, جعل من اسمه علماً لا يضارى من أعلام الفكر الإنساني, خفاقاً على مر السنين لا يبلوه الدهر ولا يطويه الزمان. ترك مكبث الساحرات ومشى يحدث نفسه بكلامهن ويتساءل ويجيب. ماذا يكون من أمر مكدف؟ وقرر التخلص من مكدف ... لقد غلظت نفسه وقسى قلبه وازداد ضميره فساداً بعد ارتكابه الجريمة الإولى وأصبح كالوحش الضاري لا يروقه إلا منظر الدماء. وتراءى إلى سمعه أن مكدف قد فر إلى انكلترا لينضم إلى الجيش الذي كان يعبئه ملكولم أكبر أبناء الملك القتيل لينتقم من مغتصب ملك أبيه. فتثور ثائرة مكبث ويخوض في بحر من الدماء ويسرع إلى بيت مكدف فيقتل زوجته وأطفاله العزَّل وخدمه وكل من يمت إليه بصلة. وهذا دليلاً كافياً لبيان إصالة الإجرام عند مكبث رداً على الرأي الذي يقول أنه قام بأعماله تحت تأثير تنويم مغناطيسي وهو لا يعي ما اقترفت يداه من إثم. أما ليدي مكبث, التي كانت تعتقد أنها المرأة القوية التي تستطيع أن تسمو على قانون البشر, فتقتل مليكها في سبيل الوصول إلى ما تريد ... نجدها تصور القسوة بأقسى ما يصل إليه خيالها بتشبيه الأم التي ترضع طفلها وتهشم رأسه ... فهذه الصورة تدل على أن ليدي مكبث لا تزال امرأة, ولا يزال في قلبها حنان نحو أطفالها. ومن المشكوك فيه أنها كانت بنفسها تستطيع أن ترتكب الجريمة كما تدعي. كل هذا يدل على أن ليدي مكبث امرأة في قرارة نفسها لا شيطانة عديمة الإحساس كما يظن البعض, لكنها لا تعرف نفسها, بل تحاول أن تكبت عواطفها النسائية البشرية العادية فتنجح في ذلك فترة من الزمان, ولكن عواطفها المكبوتة لا تلبث أن تثور وتثأر لنفسها فتكون النتيحة الانهيار العصبي التام الذي يؤدي إلى الجنون فالموت. فهي التي كانت تقول لمكبث بعد ارتكاب الجريمة. ((أتبينت ما أسهل الأمر, إن قليلاً من الماء كفيل أن يطهرنا من هذه الفعلة.)) فعندما تبينت حقيقة الأمر لم تعد تقوى على كبت مشاعرها والسيطرة على أعصابها فتمشي وهي نائمة تنظر بيديها وتقول: إيه!. رائحة الدم. هذه يد على صغرها لا تطهرها جميع الأعطار العربية أوه, أوه, أوه. فالمرأة التي لم تكن تفهم هذيان زوجها عقب قتله الملك ولم تكن تدرك ما يقصده عن الصوت الذي كان يسمعه, والذي أنذره بأنه قتل الرقاد, هذه المرأة ذاتها تفقد رشدها في نهاية الأمر, على حين أن زوجها الذي يظن الناس انه ضعيف, استطاع أن يقاوم حتى النهاية اليائسة. لقد رسم في مخيلته شتى أنواع الرعب, والأهوال التي تصاحب الجريمة ولذلك أمكنه أن يجابه الحقيقة حتى النهاية. وينقلب معظم أعيان البلاد ضد مكبث لأنه أصبح بغيضاً بعد تلك الجرائم الشنيعة. وتوارى إلى أسماع مكبث أن ليدي مكبث قد توفيت, فمنهم من قال أنها قتلت نفسها عندما لمست مبلغ كره الناس لها ولزوجها. وقال آخرون إن ضميرها اشتد في تأنيبها فلم تحتمل تأنيب الضمير وعذابه. وكان وقع الخبر عليه كوقع الصاعقة, فلقد انطفأ النور الذي كان يرشده في ظلماته في الحياة, وكواكب سعده التي كانت تهديه الطريق السوي فيما مضى تركت مداراتها خالية منها وهوت إلى سحيق الجحيم. فسئم الحياة وأحس بنهايته. مكبث: هكذا تنصرم الأيام من حيث لا نشعر بها, متوالية إلى آخر هجاء من أهجية الكتاب, الذي يحرر فيه الدهر أحداثه وسيره. كل ليلة تمهد لبعض الأناسي الضعاف طريق القبر. انطفئ, انطفئ أيها النورالمستعار هنيهه. ما الحياة؟ إن هي إلا ظل عابر, إن هي إلا الساعة التي يقضيها الممثل على ملعبه متخبطاً تعباً ثم يتوارى ولن يرى. إن هي إلا اقصوصة يقصها أبله بصيحة عظيمة, وكلمات ضخمة, على حين أنها خالية من كل معنى. هذه هي فلسفة الحياة عند مكبث أخيراً, بعد أن مر بتجاربها القاسية, وذاق حلوّها ومرّها. فها هي غابة (برنم) تزحف نحو قصر (دنسينان), إذ تقلدوا أفراد الجيش الانجليزي بقيادة (سيوارد) أغصان الغابة ليخفوا عددهم, ويشغلوا الرقباء عن الطلائع التي تقدمت. إذن صدقت النبوءة, وأن مكبث هالك لا محالة, لكنه يأبى الاستسلام, ويعزم على الكفاح حتى النهاية. قيدوني, شدوني إلى سارية كما يشد الدب, لا أستطيع الفرار, سأقاتل حتى لا تبقى على عظامي قطعة من الجلد, لا بد من الكفاح حتى النهاية. أين ذاك الذي لم تلده امرأة, هو دون سواه من أهابه وأخشاه. وسرعان ما يدخل الفتى سيورد ابن قائد القوات الانجليزية, فيلقاه مكبث وبعد مبارزة قصيرة يلقيه مكبث أرضاً مضرجاً بدمائه. ويظل يفتك بالاعداء الواحد تلو الآخر إلى أن يجيء مكدف ذلك الذي لم تلده امرأة, حيث نزع من بطن أمه نزعاً ولم تضعه وضعاً. والتقى الخصمان, وحمي وطيس المعركة بينهما, وأخذ مكدف يسب مكبث وينعته بأقبح الصفات لأنه قتل زوجته وأولاده. ولما يفخر مكبث بأن ما من أحد ولدته امرأة يستطيع أن يهزمه ينبئه مكدف بسر مولده ويسخر منه. وتخور قوى مكبث عندما يسمع ذلك, لكنه يستعيد شجاعته وبعض عناده ويستمر في النضال, دون فائدة, وسرعان ما يخر مضرجاً بدمائه. وهكذا هزم مكبث في المعركة وقتل, وكان العذاب الذي لاقاه تكفيراً عن خطاياه الكثيرة. لقد صور شكسبير مصرع البطولة في مكبث, وكشف لنا عن خبيئة هذه النفس, وكيف تطورت إلى نفس دموية بعد قتل دنكان, إنه الطمع, إنه الجشع غلب هذه النفس الإنسانية الهادئة فقلب أوضاعها, وصمّ آذانها. وأحال قلبها صخراً لا يلين, فقتلت ضيفها بعد أن سكن إليها وارتاح إلى صحبتها, وأسلم إليها زمام أمره. غدر وخيانه ما كانت لتصدر عن نفس هادئة قويمة, لكن عوامل الطمع دفعت بمكبث إلى الجريمة, وهيأت له وسائلها, وأحاطته بالمغريات, وحفزته بالدوافع, فلم تدع له سبيلاً لتدبر, ولا طريقاً لتراجع .. الملك .. الملك .. التاج .. التاج. إنها الفرصة الذهبية إن افلتت أفلت الزمام إلى الأبد. لم يدع مكبث الفرصة تفلت من يديه. إنما أفلت زمامه هو نفسه, ولم يعد قادراً على ضبط نفسه. فأتى أمراً منكراً مدفوعاً بعوامل الشر, مسيراً بقوى الباطل. وقد رأينا ذلك الجحيم الذي كانت تتدافع فيه نفسه بين الإحجام والإقدام حتى اندفعت فاحترقت. وهكذا آتيت على آخر هذه الجولة البسيطة في فن شكسبير, شاعر الجمال, شاعر السحر والخلود, لأقول: إنه ما من أحد في الغابرين أو اللاحقين طاوله في جزئية من جزئياته. لقد كان عبقرياً تحدث عبقريته الزمان, وقطعت الطريق على كل موهوب وملهم. هذا الشاعر المتمكن, الذي عرف قدر نفسه, عرف أن أدبه سيخلد على مر الزمن فأطلق ذلك مع زفرات روحه وخلجات قلبه وهو يناجي حبيبته. هل لي أن أقارنك يا حبيبتي بيوم من أيام الصيف ... أنت أحلى وأهدأ وأبقى أبداً أنت حيه: فما دام في الدنيا إنسان وما دامت في الأرض عين ترى فشعري هذا سيعيش ويخلد وأنت ستعيشين معه وتخلدين ...
|