تدور أحداث المسرحية في قرية صغيرة يتضح فيها منذ اللحظة الأولى نوعا من الصراع يتحكم فيها . ففي جزء منها ترتفع قصور عامرة على رواب عالية , وفي الجزء الآخر بيوت و خيام خربة , طغى عليها السيل فأحالها الى كوم بالية من الحجارة و الطين .. وفي هذا التناقض المكاني يكمن الصراع , صراع ذو جوانب متعددة لا نرى الاحتكاك الذي يولده , ولكننا نشهد أثاره من خلال الشخصيات التي يعرضها الكاتب علينا , وهي شخصيات القرية على اختلافهم , وخاصة منها شخصيات ثلاث تقوم عليها المسرحية معتمدة على شخصيات فرعية اخرى تأخذ أدوارها في ظلال تلك الشخصيات . فالمختار , سيد القرية وولي أمرها , وصل الى المخترة عن طريق ( جلده المحشو بالذهب ) بمعاونة حاشية من ( ماسحي الصحون ) , وحين هاجمت السيول القرية منذ عشرين سنة , تعاون المختار و الدرك و أمروا أهل القرية بالخروج لكي يردوا هجمة السيول , ولكن اخراجه أهل القرية لم يكن لهذا السبب في الواقع لان الحقيقة كانت – كما يقول الناطور – ( مثل عين الشمس : " السيل و المختار و الدرك توائم ثلاثة وان بدت للناس أمهاتهم شتى ." أما الناطور فهو ابن القرية و حارسها و تاريخها و حافظها , فلاح جاد , بائس المظهر , يحاول من جانبه أن يزعزع هذا الاستقرار الخادع الذي رسخه المختار بالإرهاب و البطش , لكي يوجد طريقة يقف بها أهل القرية في وجه السيول , شهدناه في بداية المسرحية سكيرا تتنازعه افكار بناء السد و رد السيل و محاربة المختار , ويحطمه التعب الذي يحس أنه سيناله حين يحمل فأس النضال , وينتهي ثوريا يقود أهل القرية الى أملهم الكبير : القاسي و الصعب في آن معا . بين طرفي الصراع : المختار و حاشيته و الدرك من جهة , و الناطور و شباب القرية من جهة أخرى يقف المعلم : شاب في نحو الخامسة و العشرين من العمر , جاء الى القرية متشبعا بثقافة متحررة يريد أن ينقلها الى الصغار في مفاهيم بسيطة محددة : عدالة و أخوة و محبة و تضامن , ويريد أن ينقلها الى الكبار : ثورة و تمردا في وجه الاقدار العاتية يستخدمها المختار في سبيل الابقاء على قصوره و أملاكه , ودفعا لهم لكي ما يتخلصوا من سلطة المختار عن طريق بناء سد يقف جدارا بينهم و بين طغيان السيول , يبدأ ثوريته بعنف لا يعرف الرجمة أو التنازل , ولكنه ينتهي الى موقع يتخلى فيه ثوريته القديمة بدعوى أنه ( أدرك سوء غلطته بالتجربة ) , لكنه يفقد ثقة أهل القرية ما أن يشعر هؤلاء أنه تخلف عنهم بمراحل , فيجد نفسه الى جانب المختار : موقف لم يكن يريده , ولكنه كان حقيقة لا تقبل الشك , فيعرض عليه هذا الأخير التعاون معه , أوليس من طبعه التعاون مع أعدائه الأقدمين في سبيل مآربه بعد أن يجردهم من كل أسلحتهم ؟.. لقد كان سلاح المعلم الوحيد وعيه و بريق أفكاره المتحررة , وعندما نما وعي أهل القرية , فتجاوز وعي المعلم , و فقدت أفكاره بريقها في نفوسهم بعد أن اتضحت لهم أهدافهم الحقيقية و الطريق الذي يؤدي اليها سقط في عزلته : فهو من جهة , غير قادر على أن يفهم سر هذا التطور الذي طرأ عليهم , ولا قادر على أن يساير هذا التطور , لذلك يرتد الى غرفته و يغرق في ضباب افكاره و أحلام البطولة التي لم يتمكن من تحقيقها وقت ان كان بوسعه أن يمضي على رأس المركب . الى جانب عناصر المسرحية الاساسية هذه , تقوم عناصر أخرى لا تقل عنها أهمية سواء في ما رمزت اليه أو فيما عبرت به فيما عبرت به عن الواقع , فالواعظ شخصية هامة , فهو يمثل الانتهازي الذي يسعى – مستترا وراء الدين – ليحقق مآرب شخصية لا تربطها بالدين أية صلة , ولكنه يبقى مع ذلك رجلا جاهلا ليس بينه و بين الدين أو العلم صلة ما , لذلك يبدو لنا على درجة من الجهل تثير السخرية , وخاصة حين يقص حكاية نقاشه مع معلم سابق في القرية حول دوران الأرض ..! و ثمة طلاب القرية الذين شبوا في بيئة طغى فيها التقسيم التعسفي للأرزاق , واعتادوا التفاضل الذي تقيمه العادات التي فرضها المختار , بينهم و بين ابناء أعيان القرية , فحتى المدرسة لم تخل من هذا التفاضل : ابناء المختار و الواعظ و الاعضاء يجلسون على مقاعد عالية , و أما هم فيجلسون على الارض .. وزوجة الناطور امرأة ساذجة كانت تجد في ثورة زوجها على السيل و المختار جنونا لا مبرر له , فهي لا تستطيع ادراك تمرد زوجها و ثورته , ولا تستطيع أن تواجه زوجها و أهل القرية جميعا بفكرتها , فلا تجد أمامها الا البكاء صارخة : " خلوني على خطأي ".. أما ليلى فهي الفتاة التي أحبها المعلم و حاول الزواج منها , نموذج صاف للمرأة الريفية التي تتطلع الى رجل حقيقي , ففيه كل معاني الرجولة : الكرامة و الشهامة و القوة و البأس و العقيدة , فحين يقتل أخوها غيلة على يد واحد من أعوان المختار , ويحاول حبيبها " المعلم " اخفاء معالم الجريمة لكيلا يزيد في آلامها لا يثير في نفسها الا الاحتقار : فهي تدرك ببصيرة نافذة أن أخاها قد قتل غيلة , وتواجهه بأن عليه أن ينتقم لقلبها الجريح ان كان يحبها حقا : " فان كنت تحبني حقيقة فاجعل من انتقامنا ميعاد ذاك العرس !" الى جانب هؤلاء جميعا تقف الشجرة وسط ساحة القرية رمزا يتجه اليه اهل القرية بالخشوع , بينما يطمع المختار من جانب اخر بترها أو تحطيمها من الجذور ! علام ترمز هذه الشجرة ؟ يتركز موضوع المسرحية , أو الصراع فيها حول فكرة واحدة : فكرة بناء سد يقف في وجه السيول الطاغية , وتقوم هذه الفكرة على أساس أن السيل لا يميز العالي من الواطي , فليس صحيحا ما يدعيه المختار من أن قصوره أعلى من أن يطالها السيل , كما أنه ليس من الممكن الانتظار بدون أي عمل لرد هجماته و طغيانه , لابد من العمل , والعمل الوحيد هو إقامة سد يرد السيل , هنا يبدأ الصراع , فالمختار و الدرك و حاشيتهم يقفون ضد هذه الفكرة – لأن اقامة السد سوف تجعل أهل القرية في غنى عن المختار الذي سيفقد سيطرته التاريخية عليهم بادعائه حمايتهم من طغيان السيول – على اعتبار , انه اذا كانت السيول قدرا عاتيا يسوقه الله الى عباده المقصرين , كما يقول الواعظ , فإن أي عمل يحاول رد هذه الاقدار بدعة لا طائل منها غير التعب و الاجهاد , أما أهل القرية فإنهم يحاولون أن يتحدوا تحت راية المعلم من أجل بناء السد معتمدين على أنفسهم مهما كلفهم ذلك من تعب و إرهاق . ذلك ان " الراحة الكبرى لا تنال الا على جسر من التعب " معتبرين أن نضالهم لبناء السد هو في نفس الوقت نضال ضد المختار و أعوانه الذين يستفيدون من السيل ذلك السد الذي يمكن له وحده أن يحفظ وجودهم . وبالتالي فان القضاء على السيل هو قضاء على المختار و أعوانه في آن معا , هنا يبدو عجز المعلم عن مسايرة أهل القرية في تطور وعيهم حين يطلب اليهم أن يدعوا المختار و أعوانه للمساهمة في بناء السد , يرفضون في بادئ الأمر , ولكن الناطور يطلب اليهم بعد تردد , وبعد أن يكتشف المسافة التي تفصل بين المعلم و أهل القرية , أن يتريثوا قليلا : " لكن رأيي قبل أن تستبق الأمور خير لنا أن ننتظر " لكن مع قناعته : " لسنا ضد الخير من أي طريق جاء لكن البيض لا يقلى بالزفت ." هنا تبدو المسافة بين المعلم و الناطور , بين المثقف و الشعب , ان الناطور يدرك ببصيرته الفطرية أن البيض لا يقلى بالزفت , ان السيل لا يرد عن طريق من يعيش منه , لكن المعلم ينقلب الى إصلاحي , بعد ان كان ثائرا , حيث يواجه الحقيقة التي سعى اليها و دعا من أجلها طويلا . في ذلك الحين يلعب المختار لعبته الخبيثة , فالمعلم في رأيه هو الذي زعزع أركان القرية ضده و زرع فيها بذرة الوعي و الثورة , فلا بد لفصله عن القرية من الايقاع بينه و بين أهلها . و ينجح في لعبته هذه حين يتمكن من تغير الموضوع الذي جاء أهل القرية و المعلم من أجل بحثه معه و هو موضوع اقامة السد , فيتحدث معهم عن زواج المعلم بليلى , مما يؤكد للجميع تغير المعلم و ابتعاده عنهم , فيخلفون وراءهم المختار , والمعلم واقفا الى جانبه . بعد ذلك لا يجد المعلم بدا من هجر كل شيء لكي يغرق في السكر و أحلام البطولات الفارغة , بينما يتابع اهل القرية بقيادة الناطور ثورتهم لبناء السد من أجل القضاء على السيول , الذي يعني أيضا القضاء على من يستفيدون من طغيانها , و يطلقون الشرارة , شرارة النار التي تحرق أراضي المختار من أجل بناء السد , ويحدد لهم الناطور لحظة البدء في العمل , وكلمة السر لهذا البدء تلك التي تختم المسرحية و تبدأ العمل : أوراس . السنديانة القائمة وسط ساحة القرية , وكلمة السر التي يهمس بها الناطور لأهل القرية هما مفتاحا المسرحية التي أراد لها مؤلفها أن تجري على مستويين : مستوى الواقع و مستوى الرمز . فالشجرة هي شجرة القومية العربية المتأصلة الجذور , الثابتة الأركان التي عجزت السيول عن قلعها أو الاطاحة بها , وهي موئل الثوار و مناط قسمهم كلما أرادوا أن يلتمسوا منها أسباب النضال و الصبر و العمل . أما اوراس , فهي المفتاح الحقيقي لبناء السد , أو ليست جبال الأوراس هي التي شهدت انتصار ثوار الجزائر على الاستعمار الفرنسي ؟ من خلال هذين الرمزين نفهم المستوى الرمزي للمسرحية , فالسيل وهو موضوع المسرحية الاصلي , هو هذا الغزو الخارجي الذي يهدد مصير الأمة العربية التي رمز اليها المؤلف بالقرية , والمختار هو رمز الرجعية العربية التي لا تحيا الا بوجود الصهيونية , و الاستعمار , و القضاء على الغزو الصهيوني هو قضاء عليها , اما المعلم فهو المثقف العربي , يقدر على زرع بذرة الثورة في نفوس الجماهير , ثم يعجز عن اللحاق بهم حينما ينطلقون نحو أهدافهم الكبرى , أما أهل القرية , فهم رمز الشعب العربي الذي انهكته غزوات الصهاينة و عمالة الرجعية لها , فبات يبحث عن الطريق , مستمدا قوته من تلك الشجرة القائمة على مر العصور " القومية العربية " و ليس أمامه الا طريق الثورة الذي سارت عليه الجزائر , وليس أمامه من أمل الا أوراس كلمة السر و كلمة الختام , هذه هي المسرحية التي يقدمها المسرح القومي في صالة الحمراء اليوم , مسرحية عميقة الموضوع , متعددة الجوانب , كثيرة الزوايا . و اذا كان المؤلف قد غامر ليرصد مشكلة الشعب العربي دفعة واحدة , فان المقومات التي أقام عليها مسرحيته , و الرموز التي استخدمها للتعبير عن هذه المشكلات , كانت كفيلة بإنجاح مغامرته هذه لولا بعض الفجوات التي حملتها . فالمؤلف قد أسقط على واقع القرية الصغيرة بعدا قوميا لا مجال للشك فيه أو تجاهله , غير أنه طالما استخدم الواقع المحلي رمزا للواقع القومي , فقد كان عليه أن يسير في التعبير عن الواقع المحلي حتى نهاية المسرحية دون أن يقع في هوة الخلط بين المستويين : الواقعي و الرمزي , ذلك أن اختلاطها في اكثر من موضع جعل المؤلف يبدو و كأنه يخشى ألا يفهم المستوى الرمزي لمسرحيته , فاندفع وراء التلميح تارة و التصريح تارة أخرى مما أفقد المسرحية عنصر القوة و التماسك الذي كان يمكن ان يتم لو أن المؤلف ترك مجال استخلاص الرمز للمشاهد او للقارئ دون أي تدخل تعسفي منه . أما صياغة الحوار شعرا فلم يكن له من مبرر كاف , ان موضوع المسرحية بيئة القرية و نوعية ابطالها , كل ذلك لا يبرر اسلوب الشعر , خاصة و ان المؤلف قد وجد نفسه في كثير من المواضيع مضطرا لاستخدام كلمات أقرب الى العامية ينطق بها أبطاله في لحظات انفعالية , بحيث تفقد الصورة الشعرية ذاتها مبرر وجودها , لذلك كان الأداء المسرحي الذي حطم الاطار الشعري للحوار يقترب من المستوى الواقعي الذي اراد المؤلف التعبير عنه بحيث انه لو التزم الشعر لبدت المسرحية غارقة في اجواء مفتعلة لا مبرر لها على الاطلاق . على أن هذه الفجوات لا يمكن أن تنقص من قيمة النص او تضع منها , فالمسرحية بشكل عام مسرحية قوية البناء , عميقة الموضوع , غير أنها فقدت الكثير من مقوماتها على خشبة المسرح فإمكانات المسرح الموجودة عندنا لا تسمح بإخراجها الاخراج اللائق , بيد أن الامكانات الموجودة لم تستثمر الاستثمار الكافي لإخراجها في حدود الممكن , سواء من حيث الديكور أو من حيث الاضاءة , أو من حيث أداء بعض الممثلين . فقد بدا الديكور مثلا غريبا عن القرية , فالقصور القائمة على يمين المسرح أشبه بقلعة تنتمي الى عهد الصليبيين , فهل اراد مصمم الديكور أن يقول : ان المختار يقبع في قلعة ؟ أما الالوان , فهي قاتمة ليس بينها و بين الوان الريف في بلادنا اية صلة . هذا من ناحية , و من ناحية أخرى فقد بدت فتيات الجوقة و كأنهن غير مقتنعات بأهمية دورهن في المسرحية , بحيث بدت أكثر الحركات التي قمن بها عبارة عن قفزات في ملعب رياضي أكثر منها حركات منسجمة تؤدى على خشبة المسرح و جاء الصوت الذي كان يجب أن يكون منسجما في مجموعة وفي تتالي طبقاته المختلفة خلوا من هذا الانسجام , بحيث بدا خطابيا الى حد كبير , وبعيدا عن اشاعة الجو الذي كان يمكن أن يوحيه وجود جوقة ممتازة في المسرحية . و على الرغم من ذلك كله , فان المسرح القومي بتقديمه مسرحية الذيل , يكون قد خطا الخطوة الأولى في طريق بناء مسرح محلي يعبر عن الواقع بعمق ضمن اطار قومي يتجاوز حدود القطر , لا بل و يحاول جادا و مخلصا , ان يلمس أبواب الانسانية في شمول تاريخي لا يقتصر على زمان و مكان .
|