السيل بين الشاعرية والواقعية حوار مع علي كنعان
· هذه تجربتك الأولى في الكتابة للمسرح. أليس كذلك؟ نعم. · أعرف أنك بدأت كتابة الشعر، والآن مسرحية شعرية هل حاولت الكتابة في أشكال فنية أخرى؟ لا. · لماذا كتبت المسرحية الآن؟ في المسرحية قلت، بلا شك، شيئاً ما أو حددت موقفاً من الحياة والناس والسياسة ألم يكن بوسعك أن تفعل الشيء ذاته بقصيدة مثلاً؟ هذا ما كنت أود قوله لك. الشعر في رأيي لا يستطيع أن يعبر عن كل ما أريد قوله: وخاصة في هذه المرحلة بعد جرح حزيران بالضبط. أصبحت غير مقتنع بالشعر. لأنه، وحده، (قصيدة أو قصائد) لا يستطيع أن يخدم أو يقدم شيئاً.. لا يستطيع أن يكون، فعلاً، سلاحاً، سواء من حيث التوجيه أو الفعالية. حاولت أن أكتب عملاً يخدم، بعض الشيء ما أؤمن به. · أنا أعرف هذه الردة عن الشعر بعد النكسة بأنها نوع من الردة عن الكلام. فالشعراء أخذوا يحسون أنهم عاطلون وغير فاعلين لأنهم شعراء. لأنهم لا سلاح لديهم إلا الكلمة. ويرون أن الكلمة عديمة الفعالية من جهة وأنها سلاح مجاني وسهل من جهة أخرى. وأظن أن المسرح نوع آخر من الكلام. ما رأيك؟ أي إنني أراك كأنك توقفت عن كتابة الشعر لتكتب القصة القصيرة أو الرواية. أولاً فكرة كتابة أي شيء نثري فكرة مستبعدة بالنسبة لي لأنني أجد صعوبة في كتابة النثر كما يجد الفلاح صعوبة في شهادة الزور. أما بالنسبة للشق الأول من سؤالك فهو صحيح. وهو أنني صدمت، من خلال عملي في الصحافة ربما، بأطنان الكلام الذي لا يترك أثراً فاعلاً في النفس تماماً كأقدامنا على الأرصفة. لقد مررت بمرحلة صمت تزيد على العامين منذ صيف 1965 حتى النكسة لم أكتب خلالها بيتاً من الشعر. وحتى ما كتبته بعد النكسة أراه يختلف عن شعري السابق. فالقصيدة التي كتبتها بعد النكسة لم تكن إلا مجموعة من ردود الفعل الآنية كالفقاعات المتفجرة بفعل ضغط فوق الاحتمال. ولم تكن كما كانت قصائدي في السابق أو ما اعتبره شعراً لكل قصيدة فيه منبع ومصب ومجرى عفوي مرفود بالجداول. وقد التجأت أخيراً للمسرح لأنه، من ناحية، استطاع أن ينفس حتى عن نقمتي على كثرة الكلام اللامجدي (دور المعلم مثلاً في المسرحية) · هذا الكلام يقودنا إلى سؤال: ما هو الكلام المجدي؟ أو كيف يكون مجدياً؟ هو الذي يجمع بين القول والعمل. كلامي يصبح مجدياً عندما أترك مكاني في دمشق أو أي مدينة وأعيش إما بين الفلاحين أو ما بين المقاتلين. · لكنك، حتى الآن، لم تفعل ذلك. إذن فأنت لم تزل في دوامة الكلام اللامجدي أو القليل الجدوى، وكان بإمكانك أن تستمر، إذن، في كتابة القصيدة. أضعف الإيمان يجب أن تكتب كلاماً قادراً على التأثير والتوجيه. وأظن أن المسرح أكثر قوة على ذلك. المسرحية والتوجيه. وأظن أن المسرح أكثر قدرة على ذلك، المسرحية الظروف لما كتبت بهذه الطريقة لأنني من أشد أعدائها. · ماذا قلت في المسرحية؟ أردت أن أقول أننا أمام هذا الخطر الكبير ولا بد لنا من مجابهته سواء وافق الجميع على المجابهة أم لم يوافقوا فالمجابهة محتومة وخاصة للفئات الشعبية التي تضررت من هذا الخطر. حتى إن وجودها ذاته مهدد بالزوال. مع عرض لجوانب مختلفة من وضعنا السياسي والاجتماعي. وقد تطرقت إلى أمثلة متعددة من تاريخنا كمعركة ذي قار الذي لم تشترك فيها كل القبائل العربية ومع ذلك تحقق النصر وسد مأرب الذي انهار فتسبب في هجرة القبائل. وكان الأجدى أن تعيد هذه القبائل بناء السد على أن سبب انهيار السد هو وجود الفأرة التي تنقب فيه وتغاضيهم عنها.. فالسيل في المسرحية هو الخطر الدائم الذي يهدد القرية. · سمعت حتى الآن ملاحظتين على المسرحية، الملاحظة الأولى تقول أن علي كنعان كان بإمكانه وببساطة أن يكتب هذه المسرحية بالذات نثراً وربما كان النثر فيه سيساعده أكثر على طرح حوار أقوى. كان الشرارة الأولى التي حفزتني لكتابة المسرحية الشعرية هي قراءتي لمسرحية (المخاض) الشعرية. ونظراً لأن بعض الشخصيات في مسرحيتي (سد مأرب) التي سميت بـ(السيل) هي مزيج من الشخصية الواقعية والشخصية التاريخية فقد اعتمدت بالتعبير أساساً على الأمثال الشخصية التي تحيا من جيل إلى جيل والتي تحتوي على طاقة من التعبير تفوق الكلام العادي. هذه الشخصيات وهذه الأمثال المكثفة تجد سبيلها الحقيقي في الشعر أكثر من النثر، إضافة إلى أنه من طبيعتي الميل إلى الشعر أكثر من النثر. ومن جهة أخرى فإن الشعر الحديث بمرونته الفائقة يمتاز بقابلية كبيرة لاستيعاب أية فكرة. · الملاحظة الثانية أن الرموز في المسرحية كانت مترددة وحائرة بين أن تكون شخصية لها بعدها الاجتماعي فقط وبين أن تكون شخصية ذات بعد أكبر أو شخصية رمزية. أنا لا أشعر بهذا التردد أو الحيرة فهل من مثال. · لا. الفصل الثالث في المسرحية هو نقطة ضعفها، كما أرى، ففيه تفلت الخيوط من يدك وتصبح أبعد ما تكون عن الأدب الرمزي بل يحس المتفرج أن هذا المشهد هو مؤتمر القمة وهذا المشهد هو موقف دولة كذا.. وهذا الشهيد هو كذا. فما رأيك؟ قل كل شيء أنا أعتبر كل المسرحية محاولة مسرحية وليست مسرحية. أما قولك عن الفصل الأخير فهو صحيح إلى حد ما لأن المشكلة في النهاية سواء في هذه المسرحية أو مسرحية الأستاذ علي عقلة عرسان (الشيخ والطريق) وقد اضطررت إلى تغيير بعض مشاهد الفصل الأخير عدة مرات. وكان العمل الفدائي، من هذا الفصل مسيطراً على تفكيري. أما مثالك عن مؤتمر القمة فغير وارد. قد توحي بعض الشخصيات بشخصيات عربية أو بمواقف عربية معروفة لكنني لم أكن أتعمد ذلك. · في مسرحية كمسرحيتك لها بعد رمزي بلا شك، يجب، كما أتصور أن تكون الشخصية لها وجودها الاجتماعي داخل البيئة التي يختارها المؤلف للمسرحية أي أن الناطور ناطور والمختار مختار.. لكن.. كلاً منهما يمكن أن يوحي بأبعاد سياسية. في الفصل الأخير لم يبق أمام المتفرج إلا الإيحاء بالبعد السياسي وقد زال تماماً الوجود الاجتماعي للشخصيات. أولاً هو بعد نضالي شامل وليس بعداً سياسياً فحسب، فطبيعة الصراع الدرامي في المسرحية يفرض ذلك. فأهل القرية يحسون أن خلاصهم مرتبط ببناء السد وقد نفضوا أيديهم من المختار والمعلم، ولكن طريق السد يجب أن يمر من قصورهم. ألا تعتبر هذا بعداً اجتماعياً؟ أعود هنا إلى ما قلته في البداية عن الدافع لكتابة المسرحية وهو ضرورة، التوجيه وتقديم الكلام الفاعل. فبعد هذه الدوامة الطويلة من وجود السيل واختلاف الآراء بسببه وتصرع الآراء للوصول إلى طريق لمجابهته كانت مرغماً على إعطاء بصيص أمل وعلى فعل شيء إرادي رغم أنها تتنافى مع فكرتي عن المسرح الصحيح ولكن ظروفنا استثنائية. · هل في نيتك إعادة الكرة؟ لا أدري الآن. فبعد أن أصبحت المسرحية أمام الجمهور وأصبحت – أنا – كأي مشاهد صرت أرى فيها ثغرات، لن أقولها لك، قد أعيدها لطبيعة الشعر وقد أعيدها لعدم التمرس بالتجربة ولكن أرجو أن أتلافى مثل هذه الثغرات في محاولاتي القادمة إن تمت.
الناطور: الأرض يا بني، كل شيء في هذه الحياة منذ ارتمى هابيل فوق صدرها مكفناً بالدم ما قيمة الإنسان دون أرض؟ لا شيء طبعاً! ريشة تلهو بها الرياح مسافر أجرب ما في جيبه قرش ولا في عبه رغيف. ذبابة تولد في تشرين. وتنتهي حياتها في آخر الشتاء.
يقول الناقد ملتون ماركس في كتابه: المسرحية كيف ندرسها ونتذوقها: (بتزايد كفايتنا في تقدير المسرحية، يتضاءل تفكيرنا بكل عنصر من عناصرها على حدة تدريجياً، وتنمو قدرتنا على النظر إليها نظرة إجمالية. وعندها نكتشف أن هنالك شيئاً لا يقبل التحليل – وإن الكل أعظم من مجموع أجزائه). تحضرني هذه العبارة وأنا في طريقي للكتابة عن مسرحية (السيل) لعلي كنعان ومن إخراج أسعد فضة لأنني أمام هذا العمل لم أتمكن إلا من تجزئته، فالتجزيء أساس فيه ذاته. ومأساة السيل مضموناً تتكامل في صورة القرية ومن خلال مجاميع حياتية تقرب المسرحية كثيراً من التفسير الاشتراكي للأدب. إن الشيء الواضح تماماً هو انطلاق العمل من مفاهيم اشتراكية مباشرة وواضحة، بل وخطابية جداً أحياناً، حكمي العام على مسرحية (السيل) يتخلص في إنها تجربة ليس أكثر، والسبب هو عدم وضوح أي خط درامي متماسك فيها رغم كل جهود أسعد فضة في إخراجها. السبب هو أنه من الصعب جداً، إن لم يكن مستبعداً، تقديم مأساة قرية عن طريق عرض جزئيات متفككة لا تلتحم إلا في المضمون الملتزم للمسرحية.. وبدون أي حبكة شخصية بارزة. هناك طريقان للتخلص من المأزق: أول يمكن في التركيز على موضوع رئيسي إلى جانب المواضيع الثانوية – في مجال الحديث – وهذا ما كان في (آه يا ليل يا قمر) التي نعرفها جيداً و(التنين) وإلى حد ما في (المأساة المتفائلة) أيضاً.. المليئة بالمباشرة والخطب الحماسية والثاني هو استخدام المجاميع المسرحية بدون واقعية لا تدخل في جوهر المسرحية لأسباب سأتعرض لها لاحقاً – وهذا الطريق يصل بنا طبعاً إلى المسرح البرشتي الملحمي وإلى المسرح التسجيلي واذكر أمثلة عليه (محاكمة لوكوس) لبرتولدبرشت و(أنشودة غول لوزيتانيا) و(الفيتنام) لبيتر فايس و(النصر كما في فيتنام) لأرماند غاني. إن مسرحية علي كنعان تعرض واقعاً حقاً لكنها ليست بواقعية. وهي مسرحية تستخدم الشعر لغة لكنها ليست شاعرية. وهي مسرحية تستهدف المأساة – بمفهومها الحديث وليس الأرسطوطالي - ومع هذا فمأساتها متفائلة كل هذا أو من به، ومع ذلك فليس المعنى هو أن المسرحية رديئة أو خالية من الحسنات، فقد كانت تصل أحياناً إلى مقاطع جيدة فعلاً من ناحية اللغة والإحساس وأخص مقاطع الجوقة بغنائيتها وبكائيتها ولونها وانفعالها الصادق. وأنا أعتقد أن علي كنعان قد تأثر بدراسته الجامعية للأدب الإنكليزي وذلك في صياغته لدور المرأة في مسرحية (السيل) كما لمحت تأثراً واضحاً نوه به علي كنعان بصراحة بمسرحية (آه يا ليل يا قمر لنجيب سرور والتي شهدتها دمشق في العام الماضي بأداء فرقة مسرح الحكيم وإخراج جلال الشرقاوي وهذا أمر جيد في رأيي. الخاص والعام في المسرحية كانا عن طريق الرمز وهذا شيء رائع، لكنه يظل قاصراً في السيل وغير مستوفِ لحقه، والسبب هو غياب خط درامي متكامل.. بل انقطاعه بالأحرى بدلاً من تطويره، كما في حبكة الأستاذ وليلى. وكما في اهتزاز كل الفصل الثالث من المسرحية. رغم أنها تتحدث عن واقع كما ذكرت غير (واقعية) وليس هذا نقداً بقدر ما هو تصحيح لمن يفترض فيها الواقعية وهي زلة سبق أن حصلت في مسرحيات أخرى عندما قدمت على المسرح كخليط غير مبرر. وبالطبع فلا واقعية المسرحية كما أرى أمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بلغتها المنظومة. إني اتفق على ضرورة وجود المسرح الشعري ومن أشد المدافعين عنه، لكن المسرح الشعري لا يمكن أن يعالج واقعياً إلا في أطر معنية أشرت إليها (الملحمية والتسجيلية). وبهذا كان العرض الذي شاهدناه بدون واقعية صادقة وبدون شعر حقيقي، وفوق ذلك حياد المخرج فنياً تجاه العمل وعدم احتماله عائق تفسيره أو تنبيه من هذه الناحية وهي ظاهرة خطيرة على مسارحنا يجب تداركها بمزيد من الثقة والجرأة عند فنانينا على الأقل إن لم يكن عند كتابنا وأسعد فضة يتميز بقدرة مسرحية سبق امتحانها أمام الجميع وأثبت جدارة معقولة، كما أنه يملك طاقة شعرية مليئة بالحساسية والجمال في الإخراج المسرحي ويمكن أن نذكر له مشاهد الغابة في عرس الدم، والملحمة الأسطورية الشاعرية في (التنين) لشفارتس. لكن هذه المرة رأيت هذه الطاقة مقيدة في (السيل) ومكبوتة. ربما خشي أسعد فضة أن يتطرف فنياً في نص محلي يقدم لأول مرة وربما خانته شاعريته.. وربما تردد حول التزام وجهة نظر واضحة في بلد يسعى فيه الجمهور والنقاد إلى ضرب كل تطرف أو وجهة نظر عدوة تنبعث من مسرحية محلية لأنهم اعتادوا الخليط والخلط واستخدام اللسان اللاذع بدوافع كثيراً ما تكون شخصية أو من قبل استعراض العضلات لكن كل تقديري للجهود الكبيرة فعلاً التي بذلها أسعد فضة في تقديم هذا العمل وفي أعمال سابقة لا تعفيه من مسئولية المزج بين رمزية وشعرية جمالية وبين دس لمحات واقعية الأمر الذي أنهك الممثلين وفصل بعضهم عن دوره نفسياً. كان يجب على أسعد فضة بخبرة المخرج القدير أن ينجو من هذه الورطة، وإذا كان هناك من يجد مبرراً لهذا، فأنا أذكره أن المسرحية رغم التزامها مباشرتها الفكرية وكورسها وشعرها لا تنتمي إلى مدرسة (الواقعية الاشتراكية) كنمط أدبي وفني، ولكون المسرحية تقليدية الاتجاه إجمالاً لا أجد هناك مبرر حقيقي.
والواقع أني أحاسب المخرج الآن على ما كان يمكن إنقاذه.. فهو بوضع الجوقة على الخشبة – رغم أهميتها الجمالية وربما الفكرية – قد عمق التناقض بين الشعر والواقع.. لأن علي كنعان أجاد إخفاءها بجعلها مجرد صوت يتردد في الفصل الأول.. مجرد حلم. إن جوقة تتردد في حلم لا يمكن أن تظهر مع أهل القرية الآخرين في الإطار المسرحي للسيل: السؤال الرئيسي حول النص هو شعريته، هل هو نص (شعري) حقاً؟ الذي شاهدته على مسرح الحمراء كان مسرحية منظومة وليست شعرية، اللهم إلا في مقاطع قليلة، وقليلة جداً أمام تسمية العمل بمسرحية شعرية، والفرق بين النظم والشعر فرق كبير بالطبع. ثم هناك ناحية فاتت الزميل الشاعر علي كنعان بسبب تمرسه في ميدان الشعر عدم تمرسه في ميدان المسرح وهي أن شعر المسرح بمعنى شاعريته طبعاً ليس بالضرورة وليس فقط نتاج اللغة وحدها، بل هو كما أؤمن شخصياً نتاج الحركة الدرامية ذاتها والموقف نفسه، وهذا ما كانت المسرحية تفتقده كنص وحاول أسعد فضة جهده لتجاوزه كما أرى وفشل، اللهم إلا إذا اعتبرنا أقوال الجوقة وبعضاً من كلام الأستاذ والناطور كافياً وللمقارنة يمكن الرجوع إلى نصوص المسرح الشعري من اليونان إلى شكسبير وإليوت وغيرهم. للتأكد مما أقول. كان من الأفضل للمسرحية أن تستخدم العامية في أكثر انسجاماً مع محتواها، أو على الأقل لغة عادية مبسطة وليس شعراً منظوماً، فهذا قد قيد الممثلين فعلاً ومنهم اسكندر عزيز في بعض مقاطعه، ويوسف حنا في لقطاته الهروبية الأخيرة الرائعة. وأما انهيار الأستاذ فهو التراجيديا الوحيدة المؤثرة فعلاً، رغم أني أعتقد أن علي كنعان يخالف أسعد فضة ويوسف في تفسيره لشخصيته. فعلي استهداف السخرية عن طريقه من موقف المثقفين المبني على الكلمات وحدها، وهي ناحية هامة تستدعي مزيداً من المعالجة وتعميق الأبعاد، وكان من الممكن أن تتحول إلى الحدث الرئيسي في المسرحية خصوصاً وأنها ذات علاقة وثيقة بالجانب الآخر وهو حب الأستاذ لليلى، وتصميم ليلى على الانتقام لأخيها المغدور به من زلم المختار مدعين أنه قد قتل قضاءً وقدراً وهو يكافح السيل، أما المخرج ويوسف حنا فقد أشعراني بمأساة الأستاذ وليس بتخاذله المشين. على كل حال، فعقدة المعلم في (السيل) أضحت واحدة من العقد الأخرى فقط لا أكثر، وهي تذكرني بشخصيتي ----- في مسرحية المحراث والنجوم وبشخصية ------ في جونو والطاووس وهما من مسرحيات أوكيزي الأولى الناجحة، وفيها سخر من موقف المثقف صاحب الشعارات ومدعي الثقافة الثورية العاجز أمام أي مواجهة حقيقية مع موقف فعلي.. أمام انهزامه وتراجعه وتخليه عن كل المبادئ التي طالما ثرثر بها أمام واقع التجربة. إنه عجز منطق النظرية أمام المحك العملي ولا يعني كلامي أن الشخصية منقولة.. لكنه يعني إنها موروثة. وهذا مقبول. لم يفِ علي كنعان مأساة الأستاذ الداخلية حقها وترك الجمهور ينجذب إلى العلاقات الخارجية بين الظالم والمظلوم، بين المختار وزلمه والشعب. أما حكاية الرمز في مسرحيتنا فحكاية طويلة.. طويلة إن كتاب--------- يعرف الرمزية قائلاً: (إن فلسفة الرمزيين تكمن في الاعتقاد بأن صورة العالم الموضوعي العابر لا تقدم الحقيقة الفعلية، ولكن انعكاساً للمطلق غير المرئي. وبهذا ثار الرمزيون على أساليب الواقعية والطبيعية المهتمين بالتقاط اللحظة العابرة، وآمنوا بأن الحقيقة الداخلية الخالدة هي المنطلق الأساسي والجوهر. القوة والتعقيد يجب أن ينطلقان من لغة مكثفة وصور بلاغية جانبية تتجمع كلها حول استعارة رئيسية. وهنا يترجم الانطباع الحسي الأول إلى شكل آخر ويعدو كلاهما رمزاً للانطباع الجوهري.. والرمزية هي سرد قصتين معاً، الأولى خارجية حية والثانية توازيها لكنها داخلية أو مجردة. والمؤلف يسعى إلى تجسيدها وجعلها موضوعية أي إنه عوضاً عن أن يجعل الموضوع فكرة توضحها الحبكة المسرحية كما هي الحال في معظم التمثيليات، فإنه يبرزه في حبكة داخلية. فتكون ازدواجية المعنى أساس تأثير الرمزية الخاص. غير أن لهذه مزالقها فكثيراً ما تشده حقيقة الحبكة الخارجية لتستجيب لمتطلبات الحبكة الداخلية. كما أنه إذا ما كانت الحبكة الداخلية موضوعية جداً فإنها قد تحول المسرحية إلى دعاية أو عظة. وليس هناك ما ينطبق على مسرحية السيل في رمزيتها أكثر من كلام ملتون ماركس هذا هو المزلق الذي تعثرت به السيل. الرمز كان عادة يستخدم في مسرحياتنا المحلية جافاً.. صلباً.. يصدم بدل أن ينساب برقة في الروح وعلى العين ثم يبهرها فجأة. الرمز كما أفهمه شفاف.. لحمي، وليس مصبوباً في قوالب جاهزة كما يقدم عندنا هذه وصمة استطاعت (السيل) أن تخفها لكنها لم تستطع هي تنزيلها وإن كان الرمز محسناً جمالياً في المسرحية الواقعية فهو يكاد أن يكون ضرورة في المسرح الشعري. القضية هي أن الرمز يعني إعادة صياغة الشيء بشكل يعدو الفكر للخوض في ضبابية الرمز وسحره وغموضه لكن المسرحية قدمت كمزيج غير واضح المعالم مما أدى إلى ضياع الرمز أيضاً بين الدربين.. كان أحياناً يظهر ثم يخبو. أريد كمشاهد أن أفسر الرمز.. وأكاد ألمحه بين أيدي الفتيات الضارعات في أرديتهن السوداء ووراء همساتهن الذبيحة، لكني أفاجأ به ينقطع إلى لقطات من الواقع فيها سخرية ومباشرة فلا أشعر بعد قليل إلا بالنسيان واللامبالاة تجاه وجوده. كان الرمز متسلطاً أحياناً وهذه مبالغة، وكان ركيكاً أحياناً وهذا إهمال، الشيء الواضح هو عدم وجود وحدة حديث متكاملة في (السيل).
أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين من يقرأ ويسمع لتعليمات المخرج وبين من يمثل حقاً معطياً الدور حقه.. بل وأكثر. والكورس لا يعني أبداً أن (القطار ماشي) وأنه (ما حدا حاسس). الكورس أمر هام وخطير... وهو ليس لهواً فيه ترتفع المسرحية أحياناً أو تسقط. وهو الدور الأول في المأساة اليونانية، وهو المركز في المسرح الحديث بأشكال مختلفة بالطبع بين إليوت وبرشت وأودن وشروود وبيتر فايس. الكورس بدون لينا بانع وثراء دبسي كان معرضاً لسقطة شنيعة يزيدها الأداء الصوتي المهتز، وكان هذا يؤدي بالتالي إلى سقوط كل العمل. وقد كاد ذلك أن يحدث فعلاً في مشهدين في العرض الأول الذي أكتب الآن من خلاله: في الفصل الأول الذي أشرت إليه، والمشهد الأخير حيث تنطلق النسوة ليتابعن النحيب والصياح على خشبة المسرح في ميلودراما صاخبة ومضحكة ورد فعل الجمهور المباشر هو حكم يدعم رأيي، وقد شاهدت ردهم خلال العرض من تعليقات إلى ضحكات مكتومة. إن الذي أنقذ الجوقة إلى حد ما هي تلك التعابير الحيوية الصغيرة الرائعة على وجهي لينا وثراء ومحاولات بسيطة أخرى في بعض المشاهد فقط من وجهي هيلدا زخم وبهاء سمعان.. أما فايزة الشاويش فلم تفعل شيئاً سوى أنها حفظت دورها عن ظهر قلب. وحركة الثلاثة كانت غير مقنعة بينما رسمت الاثنتان حركة رشيقة كالأطياف.. كلمسة الليل والحزن والحلم. أدى يوسف حنا دور المعلم ببراعة لا تجارى خصوصاً في المقاطع المتوسطة والأخيرة. مشكلته في أول النص كانت عدم وضوح الدور الذي ستلعبه شخصية المعلم في (السيل) وذلك التناقض بين ما يتوهم الجمهور عن دوره وما ينتج عنه، وهو ما حاول يوسف الإحاطة به فظهر متردداً مهتزاً. لقد عجز يوسف عن تغطية عيب الدور الوحيد وهو ذلك الانتقال المفاجئ، بل ذلك الانقطاع المفاجئ الآخر لما توقعنا أن ينتهي المعلم به. لقد شعرت بيوسف يتعاطف مع مأساة المعلم، بينما رسمه علي كنعان ليسخر منه ويدينه. المعلم رمز للمثقفين المهزومين في وطننا العربي.. الشعراء المهزومين أمام المواجهة الحقيقية والإغراء.. أولئك الذين يذبحون أنفسهم عندما ينتهي امتداد الفكرة لتصبح واقعاً حياً.. فإذاً ثورتهم رماداً وإذاً قيمهم سراب.. وإذا بهم يهربون إلى الكأس والنسيان وأحلام البطولة مقابل وعود براقة صغيرة. إنهم ضحايا.. أو منتحرين.. أو جبناء. هذا لا يهم قدر ما يهم كونهم انهزموا وخرجوا من الساحة. مشكلة يوسف التي خففها هنا إلى حد ما لكنه لم يتخلص منها تماماً هي نبرة صوته الشعرية دائماً وخطواته الهاملتية الرشيقة وهو يؤدي دوراً مختلفاً تمام الاختلاف عن دوره في بلاط أو غابة حيث يحاكي القمر.. الدور هنا اختاره علي كنعان بصدق الشاعر الفطري ورؤيته الصافية وربما عن تجربة حقيقية.. اختاره وزرعه في قلب قربة تعاني الظلم الاجتماعي والطبقي في قرية ترمز إلى الوطن العربي كله عدا ذلك نجح يوسف وأجاد، اسكندر عزيز كان مرضياً في أدائه، لكني أخشى على هذا الممثل الشاب من التجمد في إطار واحد انفعالي من الأدوار، فتشجنه الأخير يشبه تماماً تشنجه في (الشيخ والطريق) رغم صورة التشنجين موضوعياً. هذا الممثل يملك وجهاً وقواماً مسرحيا جيداً وصوته قوي رغم نبراته التي تحتاج لتدريب وتشذيب وهو بحاجة إلى مزيد من العناية والصقل فمن الممكن أن يصبح أحد عناصر الفرقة الحيدة إذا تيسر له من يأخذ بيده. وقد أدى اسكندر دوره بشكل مرضي في (السيل) لكن ليس أكثر من الدور.. ضمن حدوده فقط. وربما كان إخراج و لأسباب أخرى مقيداً. الذي أعجبني فيه وغطى بعض عيوب أدائه المندفع هو أنه كان يمثل طوال الوقت بتعابير الوجه وهو ما افتقده كثير من الممثلين الذين اعتقدوا أن دورهم انتهى بمجرد انتهاء نصيبهم من الكلام. فهذا خطأ غير مغتفر على المسرح. خطأ حصل من قبل. ولا يزال يحصل أحياناً. لقد ذكرت كلاً من أحمد عداس وياسر العظمة وأنا أعيد ذكرهم مرة ثانية لما أدوه للمسرحية من خدمة وفائدة. لكني أوجه عناية ياسر العظمة إلى صوته وهو يؤدي دور السكير فقد كان طبيعياً.. منى واصف أجادت كما اعتادت في الأدوار الشعبية ولا أعتقد أن ممثلة سورية تستطيع أداء دورها بمثل هذه الانفعالية الفطرية الصادقة. إنها تظل أبرع من أدى (بنت البلد) رغم كل تجارب الأدب العالمي التي خاضتها من قبل وما تزال تلعبها. الشيء الغلط في دورها هو شعور المتفرج بعدم الاقتناع تجاه الميلودرامية المفاجئة في تمثيلها لدور المستسلمة الخاضعة. وعلاقتها بزوجها – الشخصية المهتزة – التي بدأها علي بشكل لم يعرف كيف ينهيها به، علاقة تفاهم وهي بذلك ذات نتيجة كوميدية. لكنها تتغير فجأة لتغير بالتالي شخصية زوجها الناطور أمام الجمهور: زوجة الناطور: في وسع زوجي وحده أن يكبح السيول لكنه والذئب ليس ذنبه – مشلول. لو كانت الأرض له.. لو كانت البيوت والكروم والغنم لو كانت الإرادة لو كان في إصبعه ظفر يحك جلده أو عاش أو أحس يوماً واحداً مواطناً لزحزح الجبال.. فجر الصخور.. أبطل السيول لكنه، يا حسرتي مشلول وهذا المشهد لا يتناسب لا إخراجاً ولا أداءً مع نمو الشخصية. فقد ضربها في الصميم..
شخصية ليلى جيدة، لكنها مختصرة وكان هذا منطبعاً في الأداء. وقد بذلت ثناء دبسي جهدها، وهو جهد ممثلة مسرح قديرة، من أفضل، إن لم تكن، بين ممثلاتنا حالياً لكن دورها ظل تائهاً بين الأدوار الأخرى. السبب هو أن دورها لو طال لكانت بهية أخرى في (آه يا ليل يا قمر) أخرى أنها بهية مختصرة جداً لتصبح بدلاً من مركز المسرحية إحدى الشخصيات العابرة فيها. إنها شخصية بدون النضج الكافي والبعد الدرامي لبطلة نجيب سرور التي هزتنا وأرعشتنا. لقد فعلت ثناء دبسي الكثير للدور بل أكثر مما فعله المخرج.. لكن أسوار الشخصية كانت أعلى من التجاوز، رغم المشهد البكائي اليتيم لليلى.. ذلك المشهد الجيد. ولن أتحدث أكثر عن الجوقة النسائية والشجرة.. سأدع المسرحية تتكلم في أحد المقاطع الجيدة: الجوقة: هل نحن أحياء هنا.. أم يا ترى أموات؟ وهذه أصداء ما كنا حكينا في السنين الغابرة أم إنها حقيقة، أصوات؟؟ متنا.. وما متنا. شجرة تطفو على وجه المياه.. ما لها جذور وليس في أغصانها سوى قشور شجرة من ورق ملون، تنبت في الهواء مشدودة إلى الثرى بخيط دم (وقفة) متنا.. وما من أحد يدفننا أهكذا نبقى على السطح طعاماً للذباب؟ لن أعلق على باقي الشخصيات والأدوار لأنها سطحية أو عادية وعلى رأسها دور المختار ودور الحارسين العجوز والشاب وعبدو.. جوقة الأطفال كانت ناضجة في عفويتها.. عدا قيود اللغة البشعة في هذا المشهد. أما أمكن لعلي كنعان أن يتخلص منها حتى في مشهد الأطفال؟ أخيراً، أحب أن أقول أني كنت آمل في عمل أكثر تماسكاً، فرغم اللمحات والخامات المدفونة في أعماق هذا النص، فنقائصه تجعلني أتساءل عن محاولة مسرحية ناجحة أخرى، وأنا هنا لا أجامل. إن علي كنعان منسجم مع جوهره.. ومخلص.. ويجب أن يصل بالتالي إلى تحسين أسلوبه المسرحي بالخبرة والممارسة والدراسة وأنا أعتقد أنه كشاعر أفضل منه ككاتب مسرحي. فالمسرح يقتل الشعر، ويرعى الشاعرية.. والمهمة صعبة على كل من الكاتب والمخرج والممثلين في أي تجربة مماثلة. على كل، فتجربة إخراج مسرحية له ستجعله حتماً يحس بالفراغات وكذلك النقد، وسيقوده إلى الطريق السليم أو خطوات إلى الأمام على الأقل بكل تأكيد. لكني أسفت حقاً لأنه لم يحضر بروفات المسرحية، وأنا أعتقد أن هذا كان واجباً. وليس هذا موضع جدل. لقد كان من الممكن أن يساعد المؤلف على تقديم أفضل للنص، وكان ممكناً أن يغير ويطور مشاهده وشخصياته والنهاية المهتزة ككل الفصل الثالث. كان ممكناً أن يعلم ويتعلم. أفضل الفصول هو الثاني بلا ريب. في الختام، أحب أن أشير إلى أن كل ما ذكرت في هذا المقال آراء شخصية بحتة ارتأيتها من مشاهدة السيل ومراجعة النص. قد أكون أخطأت في النقاط وقد أكون أصبت. قد يوافق القراء على رأيي وقد يرفضوه. لكني مقتنع بما أقول وقد بذلت جهدي لأدافع عن قناعتي. إن المسرحية تفضل صابر أفندي بمسافة، لكنها رغم كل الجهود المبذولة فيها ورغم تجنيد المخرج والممثلين لإمكانياتهم في معالجة نص شعري، لم تكن المسرحية أكثر من متوسطة بكثير، لم تكن متألقة كفاية، كما نريد لمسرحنا السوري أن يكون. إنها محاولة على الطريق.. شديدة المباشرة، مهتزة الشخصيات، مع رموز جيدة ومزج رديء بين المدارس، ومع لغة جيدة وباهرة لكنها غير واقعية وغير شاعرية كفاية. إنها كما سماها البعض (خطبة)، لكنها ليست خطبة فنية، وكان من الممكن للمسرحية أن تصبح أفضل لو ساعدت العوامل المؤثرة بدل أن تؤخر. لقد شاهدنا عرضاً لمواهب فردية أكثر مما شاهدنا مسرحية متكاملة. هذه المواهب رائعة لكنها بدون انسجام لا شيء أخيراً، ليس لي سوى كلمات الشاعر الإيرلندي الكبير يتيس: (إني أؤمن بإصلاح المسرح، بمسرحياته، وحواره، وتمثيله، وديكوره، فليس من شيء مرضٍ فيه الآن).
|