مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


هذه المسرحية مجموعة من حكايا وأساطير شعبية جمعها الكاتب إلى بعضها بمتانة وإحكام. ولكنه – وهو يخوض هذا الخوض الأسطوري في بناء المسرحية – يبدو ذا نزعة علمية ومذهب اشتراكي. وهنا تكمن قيمة المسرحية كموضوع أولاً وكتناول ثانياً. ومن هذه الزاوية نناقش المخرج في فهمه للنص.

تدور حوادث المسرحية حول إنسان يفتش عن سعده في ظل أحد الحكام. والحاكم  ظالم مستبد يعاقب نصف سكان الأرض بالإعدام والنصف الثاني بالسجن المؤبد إذا لم يجدوا لابنته عقدها الضائع. وحول هذا الحاكم بطانة محفوظة تتزلف إليه وتستبد وتسرق وتتآمر. أما الرعية فبين محظوظ غني وجائع فقير.

في هذا الجو يبحث الفقيه عصفور عن سعد ينجيه من شقاء الجوع والحرمان، فيرحل سائلاً عنه فيجده أخيراً هناك في قصر الحاكم، ويكتشف أن الطريق إلى قصر الحاكم – رغم أنه محفوف بالمخاطر – بسيط يحتاج إلى قليل من شعوذة وكثير من كذب وادعاء ولكنه أيضاً يحتاج إلى التصدي لأعوان الحاكم الذين يحسدونه على مكانته منه ويحتاج أيضاً إلى التخلي عن الزوجة والضمير والصديق وأصحاب الضمير.

إن السعد هنا وعلى هذا الشكل تصوير للنظام البرجوازي الظالم بما فيه من تفسخ في العلاقات الاجتماعية وما فيه من تقارب طبقي شنيع قبيح. والفقيه عصفور يدرك في النهاية طبيعة هذا النظام الذي إن طال عليه الأمد فهو محتوم الفناء فيتخلى عن السعد الذي أتاه ويتلقى حكم الموت صابراً راضياً منهياً حياته بهذا النداء العريض العميق (احكموا الإيقاع واضبطوا الزمن ففي ضبط الزمن أكبر تحد للزمن) هذا هو في تقديري روح المسرحية العام، ولهذا قلت أن الكاتب علمي النزعة اشتراكي المذهب وليس الشكل الأسطوري إلا ظاهراً جذاباً يخفي الكاتب في ثناياه أفكاره، وليس هذا الفهم ادعاء نلصقه بالكاتب والمسرحية وإنما هو شيء مفهوم من نقاط دقيقة شديدة الخفاء.

فأولاً، الحظ السعيد لا يأتي صاحبه إلا على حساب بؤس الآخرين – كما ورد في حديث الحكيم قنديل - ، وهذا كشف للتفاوت الطبقي.

وثانياً، استطاع الفقيه عصفور السيطرة على الباشا زمناً طويلاً بما يمكن أن نسميه المصادفات في أصل الحكاية الشعبية، بشعوذته وألاعيبه حسب منطوق فكر الكاتب، ولكنه يعجز أمام حالة واحدة أدت في النهاية إلى كشف شعوذته أمام نفسه وأمام الآخرين هي الكرة التي طلب الباشا منه أن يجعلها تتكلم وتغني. فهذا الطلب لا تنفع فيه المصادفة أو الحظ أو الشعوذة كما حصل في الحالات السابقة – وإنما يحتاج إلى العلم، وهذا المطلب العلمي يكشف الجهل والشعوذة، وبالتالي يسقط البناء الهرمي المرفوع على الجهل والشعوذة.

ومادام الكاتب يصف نظاماً استغلالياً ويتابع حالة من حالات الارتقاء الاجتماعي في نظام كهذا فإنه يحق لنا القول أنه علمي النزعة اشتراكي المذهب فالغاية من فضح الشيء هي الوصول إلى نقيضه، ونقيض الظلم والاستغلال هو العدل ونقيض الجهل هو العلم ويجب على الإنسان بعد هذا أن يحكم الإيقاع ويضبط الزمن.

ومع ذلك فإن نضوج الفكرة وعمقها لا يخلق عملاً مسرحياً – والمسرح فن رهيف – لولا أن الكاتب مدرك لجوهر صناعة المسرح سواء في دقة رسم الشخصيات وهي تجري على ظهر الحياة أو في متانة الحبكة المسرحية وسيرها ضمن خط درامي هو العصب الحساس لكل عمل مسرحي. وقد استطاع الكاتب أن يجعل من شخصياته كائنات حية تعيش وتتألم وتبكي وتستبد وتتمزق، ثم تنتهي إلى أدوار يفرضها عليها منبتها الطبقي وطبيعة النظام، ولذلك لم نجد خلافاً لمنطق الحياة حين يتصرف الحاكم تصرف المستبد أو حين تتطاحن الحاشية  فيما بينها وتحاول إبعاد رجل دخيل يسد عليها منافذ الكسب والسرقة لأن طبيعة النظام تفرض ذلك أو حين يتمزق الفقيه عصفور المغتني وهو يصطدم بقسوة النظام وانفضاح جهله أو حين تتألم الزوجة والصديق -  وهما فقيران – من خيانة عصفور لطبقته.

وهذه الشخصيات التي تتحرك ضمن إطارها الاجتماعي والنفسي تخدم المسار العام لفكرة المسرحية وتساهم بالتالي في رسم الخط الدرامي لها، ويتمثل هذا الخط الدرامي في التنقل بين مراحل متعددة. فمن الحيرة الضائعة والصراع مع الفقير إلى التفتيش عن السعد، إلى اللقاء به والصراع القاتل الهمجي ضد الظروف الشرسة التي يمكن أن تذهب بالسعد، إلى الحيرة الجديدة أمام انكشاف النظام والصراع المتولد في النفس عن هذا الكشف. وتأتي النهاية بعد ذلك أمراً طبيعياً ينسجم فيه الإعدام والنظام.

وهذا التدرج في خط المسرحية يرافق تطور الحالة الاجتماعية للفقير السابق، لأنه يرتفع بارتفاع واقعه الاجتماعي حتى يصل إلى ذروته المتأزمة حين يتربع على كرسي الحاكم، ثم ينحدر مع تهاوي سيف الجلاد على رأسه.. وبذلك يكون الخط الدرامي خادماً لفكرة المسرحية وشارحاً لها، وهذا بالضبط هو الوعي الكامل لمفهوم البناء المسرحي وغايته، وهذا هو التوظيف الحقيقي للعمل المسرحي.

ولا شك أن عملاً كهذا يبدو غريباً على المتفرج العادي – بتجربته المسرحية القليلة – لأن الكاتب في نزعته العلمية الملتزمة لا يسير مباشرة إلى هدفه بل يقدم الفكرة الجادة مع ضحكة عريضة إذ أنه يختار الكوميديا وسيلة لما يريد قوله. وبذلك يربح لذة الإمتاع الفني وسحر الغموض الموحي. ولكنه بذلك يرهق مخرج مسرحيته، لأن أي خلل أو تقصير ينقل العمل كله إلى حفلة ضاحكة فحسب تؤدي إلى نتائج مفجعة في إدراك مفاهيم المسرحية.

ولا شك أيضاً أن أسعد فضة مخرج المسرحية كان على وعي شديد حين اهتم بنقل هذه المفاهيم إلى الجمهور عبر عملية الإخراج فقد ألغى الستارة في العرض المسرحي، وسمح للجمهور بمشاهدة نقل الأثاث، وبذلك أسقط الجدار الرابع، وهو عمل مقصود. فالمسرحية تريد قول شيء معين. وهو شيء خفي يكمن بين ضحكات الجمهور وفي ثنايا ملامح الشخصيات، والمخرج يريد التأكيد على أبعاد النص عن ظاهره الأسطوري الضاحك إلى باطنه الفكري الجاد، فكان أن حطم الستارة أو الجدار الرابع حتى يمنع الوهم المتولد عن الاندماج ببراعة التمثيل وحلاوة النص، وبهذه الطريقة يستفيد المخرج من المسرح الملحمي التوجيهي استفادة بسيطة وبليغة في آن معاً في إبقاء ذهن المتفرج في حالة وعي تام بأنه أمام عمل مصنوع مفتعل يريد صاحبه منه أن يدل على شيء. وكتأكيد على تحطيم الوهم جعل المنادي بأخبار الباشا يسير في الصالة فسمح للجمهور أن يتلمس لهاث الممثل وأن يسمع خطواته وأنفاسه وهو يؤدي عملاً مصنوعاً لا داعي للاندماج فيه.

وثمة جانب آخر هو وجه (السعد). فقد جعله المخرج قميء القامة قبيح الصورة. وما السعد في حقيقته من خلال نظام كهذا النظام؟ إنه ليس إلا استغلالاً بشعاً واستلاباً لسعود الآخرين. وهو وأن جلب لصاحبه الغنى والترف ذو وجه كالح لأنه مظهر الظلم كله. والواقع أن إظهار السعد على هذا الشكل ضربة موفقة من المخرج ساهمت مساهمة حاسمة في توضيح المفهوم الاشتراكي لفكر الكاتب.

تبقى بعد ذلك هنات بسيطة في الإخراج، منها الإسراف في الحركات بقصد الإضحاك وإطالة بعض المشاهد من غير داعٍ كمشهد تلذذ الفقيه عصفور بالطعام والنساء والشراب، وكان يكفي اللمح السريع، إلا إن هذه الأخطاء البسيطة لا تذهب بجودة الإخراج.

ترى ألا يحق لنا بعد هذا أن نقول: إن المسرح القومي في انتقائه لهذا النص إنما يقدم لنا فكراً نظيفاً بشكل قريب من النفس العربية؟ وألا يحق لنا أيضاً أن نقول أنه يضع أمام كتاب المسرح أسلوباً حياً ناضجاً لتناول قضاياً الأمة العربية المعاصرة حين قدم لنا ضحكة اشتراكية حادة تجتذب الجمهور وتنبهه وتساهم في توعيته؟