مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


الفقيه العصفور.. وسيلة كشف.. فقط!

بوسع العاملين بالمسرح في بلادنا تحقيق قدر معقول من النجاح إذا ما عقدوا العزم فعلاً على تجشم العناء ومغالبة الصعاب في سبيله.

وطريق النجاح وحده كفيل بتحقيق الصلة المتينة بين المسرح وجمهوره، وبما يضمن – بالتالي – توصيل الأهداف المنشودة. والنجاح الذي نعنيه هو التزام الجودة في جميع جوانب العرض المسرحي، الجودة التي تتعانق فيها الحرفية المسرحية. وهو فهم يخالف ما هو سائد حالياً لمعنى كلمة (النجاح) التي يقصد بها الجري وراء محاكاة رغائب الجمهور واستغلال عواطفه الساذجة، واستجداء أكبر كمية من صرخات التشجيع الهستيرية الجوفاء، ورنين الأكف الفارغة من الإحساس والمعنى.. هذا النجاح الذي يؤول عاجلاً أو آجلاً إلى التلاشي والانمحاء الكلي من ذاكرة الخلود..

وفعل مسرح الجزيرة في محاولته الأخيرة مسرحية (السعد)، قد وعي الدرب الصحيح ووضع خطواته على طرف بدايته: فاختيار النص، والاستعانة بالخبرة الإخراجية المتمرسة – أسعد فضة – والتعاون مع زملاء مسرحيين من فرقة أخرى كل تلك مؤشرات مضنية في مسيرته، وتشكل في مجملها قلة موفقة من دائرة الارتجال إلى مجال العمل الجاد المثمر..

·        ماذا نفهم من مسرحية (السعد)؟

إنها مسرحية ذات بناء كوميدي يستبطن المأساة، فكرتها، هي حكاية الطموح الإنساني حين ينحرف إلى طريق مغرية ولكنها غير سليمة، سرعان ما توصله إلى نهاية مسدودة تؤدي به إلى مأساة.. يقول بطل المسرحية في النهاية (أيتها الصدف الغبية ابتعدي عني لقد سئمتك ابتعدي عني لقد خدمتني بما فيه الكفاية، وكنت فقط أود أن تساعديني فإذا بك تقتلين طموحي وتشلي عزيمتي، ابتعدي عني يا قاتلة الطموح.. يا مبيدة الهمم يا مخذلة النفوس..

هذا الطموح الذي يحيطه عالم السذاجة والغباء ويغريه ليلعب بوجهي المصادفة. المصادفة التي يخلقها هو بخبرته وذكائه وتوقعه المرهف، والمصادفة التي تخلقه دون أن يكون له يد في وجودها. وفي كلتا الحالتين يكون عالم السذاجة والغباء مسئولاً عن وجودهما وإتاحة المجال لهما لممارسة ألاعيب الغرابة والإدهاش.

أمثلة للوجه الأول للمصادفة:

-         يقول الفقيه عصفور (الشخصية المحورية في المسرحية): ".. فقد رأت زوجتي وكانت تشتغل في بيت (الباشا) الغزال الذي ابتلع عقد ابنته"..

-         ويقول أيضاً: "وسؤال (الياقوت) لا يحتاج إلى تفكير كبير للإجابة عليه"..

-         ويمكن أن يدرج مصادفة عثور عصفور على الكنز ضمن هذا الوجه، إذ يعرف عصفور نوعية حاشية (الباشا) التي يلمح كثيراً في حواره عن انتهازيتها وعدم أمانتها، كما أن اختفاء الخليفتين والحاج فضول عند سرقة الكنز ما يجعله يتأكد أن اللصوص هم من حاشية (الباشا) وقال معلقاً على اختفاء فضول: "أخشى أن يكون هو المختطف لنفسه.." فهذا يعد من باب التوقع الذكي الذي يهيئ لوجود الصدفة.

ومن أمثلة الوجه الآخر للمصادفة:

-         يقول الفقيه عصفور: "واستعملت الرمز من أناس لا يشعرون بالوخز.. وكانت صدفة إذ وجدت الخوابي تحتوي على عسل وسمن وقطران".

-         ويقول أيضاً: "وكانت مفاجأة مذهلة إذ وجد الكنز بمجرد قطع لسانه"..

ويقوم الصراع في المسرحية بين هذا الطموح المزود بنوعي المصادفة المتمثل في شخصية (الفقيه عصفور) وعالم الغفلة والغباء المتمثل في (الباشا) وحاشيته.

ويتم الاحتكاك بينهما على مستويين يتعاقبان بانتظام، كل مجابهة تليها مصالحة، حتى يصل الموقف الدرامي إلى حد التفجر، وتكون ذروته المجابهة الضدية القاسية، التي تؤدي إلى مأساة الطموح.. الطموح  الذي سنجده آخر الأمر منحرفاً مضراً بكيان الشخصية، وغامضاً في إعطاء ملامح فكرية أصلية لها.

ومن خلال هذا الفهم يصبح دور عصفور مشحوناً بالحيوية والحركة، ومركزاً لقوى الفعل الدرامي، وكاشفاً في تحريكه للصراع، لنفسه من جهة ولمحيطه من جهة أخرى..

·        من هو الفقيه عصفور؟

يكشف لنا الفقيه عصفور في آخر المسرحية عن نفسه قائلاً "فلست عالماً ولا حكيماً ولا عبقرياً.. أنا عالم لغة بسيط وكل معارفي محدودة جداً جداً.. أنا مشعوذ بالإكراه في عالم كله سذج ومغفلون.." .إنها فكرة عصفور عن نفسه، أي الحقيقة مفصولة عن محيطها، وليست فكرته داخل عالم السذج والمغفلين، أي الحقيقة منعكسة من محيطها.. وإن مطلوب الصفات في ملامح شخصيته في المسرحية ولكن بمفهوم السذج والمغفلين للحكمة والعبقرية.. ولخصها المؤلف في كلمة واحدة هي (الشعوذة) وبهذا قدم من خلال التلاعب اللغوي ومن ثم انعكاسه على بناء الشخصية نقداً بارعاً وذكياً أسند الرؤية النقدية للمسرحية.. إلا أن الخلل أصاب بناء الشخصية من جهة أخرى حين رسمها منحرفة في طريق الشعوذة برضاها ووعيها، وبالتالي تصدعت رؤيتها الفكرية العامة وأصيبت بالتناقض والغموض في مواقفها مما جعلها بلا موقف.. ولعل المؤلف أراد لها أن تكون كذلك.. وسيئة (كشف) لا شخصية (موقف).. كشف لوضع سياسي واجتماعي مرفوض وفي الوقت نفسه تجيب انتقاده مباشرة واتخاذ موقف منه علانية.. والنتيجة جاءت دون الصد حيث كشفت الشخصية عن عيوبها لا عيوب محيطها فحسب.. وسقط المؤلف في المحذور!..

الغموض والخلخلة في ملامح وبرز في ذهن المشاهد تساؤل مهم: لم استخدام شخصية منحرفة للكشف عن مثل هذا الانحراف؟ وقد يقبل المنطق الرجعي هذا البناء الفتى في الشخصيات، أما وجهة النظر التقدمية فترفض ذلك مهما كانت المبررات.

ولا شك أن المسرحية في بنائها الظاهري والتقني تبدو متماسكة ومترابطة، ولكن حال ما ينتهي المشاهد منها ويفكر فيها جيداً يجد أنه لم يخرج منها سوى بأشتات من الأفكار والانتقادات المتضاربة.. يعجز عن لمها تحت رؤية فكرية متكاملة وأصيلة، ومع أن شخصية الفقيه عصفور بدت من حيث الموقف متصدعة وغامضة إلا أنها أدت دورها بإتقان وقدمت انتقادات بارعة للسلطة حين يلفها الغباء والسذاجة..

فالباشا الذي هو قمة السلطة كان فارغ الفكر والضمير ينتظر دائماً من ينقذه من إشكالات المسئولية ولو على حساب حاشيته ورعاياه.. وهو يحكم عقم تفكيره منساق إلى الاستعانة بنوع معين من المشعوذين خفاف الظل النابهين في مجال ألاعيب الإدهاش  والغرائب هذا الحكم الذي يفرز بطبيعة تكوينه نوعاً سيئاً من البطانة أو الحاشية التي تتقلد دورها بمهارة في حياكة الدسائس وانتهاز الفرص للانقضاض على المناصب والأموال.. وفي المسرحية تلعب هذه الفئة دوراً بارزاً تكون فيه أحد طرفي الصراع.

ونجد المؤلف لأمر ما، أو الأسلوب الفني في الكتابة يغلف المسرحية بديكور تاريخي وأدبي عصور الترف واللهو العربية.. مجالس الخلفاء وعالم ألف ليلة وليلة.. وغيرها.

·        ماذا أعطى الإخراج؟

لم يتسن لي مشاهدة أعمال أسعد فضة الأخرى لأتعرف على أسلوبه ومنهجه في الإخراج، كما أن هذا العرض لا يمكن الخوض في تجربته. فبالإضافة إلى جهلي بالتغيرات التي ربما حصلت على النص الأصلي.. هذا النص الذي تبين أنه عملة نادرة هنا.. فإن نقد الإخراج في ضوء الظروف التي وضع فيها المخرج (وهي قلة الطاقات التمثيلية المتوفرة في مسرح الجزيرة وضعف بعضها. وعدم توفر المستلزمات الفنية المناسبة للخشبة ومن ثم اضطراره إلى سد النقص بأي شيء) يعد بعداً عن الحقيقة وإظهار مستوى الكفاءة الفعلي.. ويبقى أسعد فضة مخرجاً تشهد له أعماله من جهة ويشهد له جهده العالي في رفع كفاءة ممثلي المسرحية وتنمية قدراتهم الحركية والصوتية واللغوية، تزويدهم بالخبرة المسرحية العملية.

·        ماذا أعطى التمثيل؟

الممثل الجيد هو الذي يتفهم المسرحية من شتى الوجوه، ويغوص في روح الشخصية التي يريد تجسيدها على الخشبة لا عن طريق الاندماج الفج المتشنج، إنما بالتجاوب مع دوافعها وطموحاتها، والتفهم لسلوكها وتفكيرها.. وعن طريق هذا الفهم العميق ينبع الإيمان بالشخصية وعن طريق الإيمان ينبع الإحساس.. الإحساس الصادق الذي يتيح له الثقة والتركيز والإبداع، ويدفعه ليؤدي دوره بقوة كبيرة من الانفعال والإقناع الانفعال المسترخي والإقناع دون إجهاد.. والتمثيل الجيد هو هذا المزيج المتكون من الحرفية والإبداع .. فأين ممثلونا من هذا؟

سعد الجراف في دور (الفقيه عصفور) استطاع إلى حد ما أن يتخذ وضعاً تمثيلياً أفضل مما كان في أدواره السابقة فقد كان واثقاً من نفسه متحكماً في حواره والسيطرة على أدائه وخاصة مع الممثلة التي أدت دور (الياقوت) التي كانت تشكل عرقلة واضحة لانسياب العرض المسرحي وتدفقه إلى الجمهور.. ومع ذلك كان تأثيرها على (سعد) ضعيفاً، وهذا دليل على أنه يمتلك طاقة فنية يمكن أن يكون لها شأن في المستقبل، لكن الجودة في التمثيل ليست السيطرة فقط على وسائل الاتصال من صوت وحركة وإيماء فما لم تستطع هذه الوسائل نقل أفكاره النص وانفعال الممثل وأحاسيسه بها فإن التمثيل يظل ناقصاً، وهذا ما لم يستطع سعد أن يوحي به أو يعبر به عنه، وبدا فهمه للشخصية لا يتم عن تعمق واستيعاب ، وزاد الطين بلة لجوؤه إلى تضمين الحوار بكثير من الكلمات والتعابير العامية والإكثار من حركة الجري والقفز.. مما أعطي الشخصية سمة التهريج والفكاهة الهزيلة التي تهدف إلى استجداء ضحك الجمهور وبهذا تعطل وصول الحوار وما يتضمنه من أفكار وانتقادات جادة وأحاسيس وقدم سهد بهذا إضافة إلى غموض الشخصية في الأصل، كما ذكرنا سابقاً.

ومحمد الجراف في دور (الباشا)، بعد تمثيله أكثر قدرة في إجادة التمثيل مقارنة بأدواره السابقة فقد تخلص من كثير من الحركات التي لا داعي لها كتشنج الجذع وضعف الانفعال.. ولكنه في هذا العرض لا يخلو من نواقص فقد أدخل صفات غريبة على دوره، كالتأتأة والفجلجة والترديد وتقطيع جمل الحوار إلى جانب البحة التي تلازم صوته وتضعف من صفاء لغته.. ولا أدري من أين استقى هذا كله ليعبر به عن ملامح شخصيته؟

وسبيكة الحكم في دور (جرادة) لم تستطع التخلص طبعاً – من مواصفات أدوارها السابقة: المرأة الأمية الجاهلة الثرثارة، السليطة اللسان التي ترش جمهور الصالة بوابل من الكلمات المبهمة أو الغارقة في العامية.. هنا انقلبت تلك المواصفات إلى مساوئ:

الثرثرة بالحوار، جمود التصويت في نغمة عالية حادة رتيبة، السرعة في أداء الحوار وكأنها تريد التخلص من الدور بأسرع وقت، تأدية الفصحى بلحن عامي!!

وبرز من الممثلين الذي برعوا في أدوارهم رغم قصرها، عاطف السلطي في دور (الخليفة الثاني) وعبد الله وليد في دور (فضول) فقد كان تمثيلهما على درجة كبيرة من الإتقان، ظهر في انسجام الحركة والحوار، وتلوين الصوت وصفاء الإلقاء، والاستيعاب الجيد لروح الشخصية، وأشاع عبد الله وليد في شخصيته روحاً حيوية فكهة، فحققا روحاً حيوية لانفعالهما وإحساسهما إلى المتفرج..

ومحمد البهدهي قدم عرضاً وسطاً، لم يكن أفضل أدوراه ولكنه حافظ إلى حد ما على كفاءته في التمثيل وأشاع روح المرح والحيوية في دوره ولكنه أخفق في مجمل أدائه من حيث نقل الإحساس وإبراز ملامح الشخصية التي مثلها، كما جاءت اللغة رغم وضوح إلقائها تشوبها رنة التصنع أو التكلف.. ولعل تجربته الحديثة مع الفصحى والنمط الجديد لدوره كانا وراء هذا المسوى.

أما بقية الممثلين فلم يؤدوا أدواراً تيسر لهم إظهار قدراتهم وطاقاتهم الفنية.

 

 

·        ماذا عن اللوحات الغنائية؟

اللوحة الأولى التي استطاعت إلى حد ما أن تعبر إلى حد ما رغم إيقاعها الرتيب وكلماته الساذجة عن مسيرة البحث عن الحظ ووسيلة إنعاش ذهن المتفرج، أما اللوحتان الأخريان فقد أحدثتا هبوطاً مفاجئاً وعميقاً في انسياب العرض ويعثر تدفقه بشكل ملموس!

·        ماذا أعطى الديكور؟

يصعب إعطاء مدلول تعبيري للديكور لأنه ببساطة لم يدخل من باب الإضافة للعمل المسرحي، إنه ولج من باب آخر، يطلق عليه (الحرفية في الفن) أي نقل الحقيقة الظاهرة أو الواقع الخارجي كما هو.. فديكور المسرحية هو كما يلي:

(عشة + واجهة مغارة + بيت عنكبوت + سلالم عمودية + كرسي مزخرف.. إلخ)

وبإمكان أي متفرج مهما ضؤلت معلوماته سيفسرها هكذا بالترتيب:

(فقر + ملجأ لصوص + قِدم + أدوات لصوص + حكم أو سلطة)..

 وكل ما ذكر تحدثت عنه المسرحية وعرضته مجسماً على الخشبة فما الإضافة هنا.. لا شيء طبعاً لأن هذه الأجزاء من الديكور دون علاقات وغير منسقة لتنتظم في (كل) له دلالة وإيحاء، فلا يمكن أن تعطي الأجزاء وحدها معنىً كلياً ما لم تنطلق من (كل).. وتعني هذه المقولة بلغة المسرح: قراءة استيعاب لأفكار النص وربطها في (كل) ثم إعادة صياغتها في (كل) جديد يحمل دلالة جديدة توضح المعنى أو توسعه أو تضيف إليه بعداً جديداً.

وهنا تجدر الملاحظة أن ليس غير فنان الديكور نفسه قادراً على القيام بالعمل، وما يلاحظ من حرفية في فن الديكور المسرحي عندنا راجع إلى كسل الفنان وترك المهمة للمخرج وما على الفنان إلا السمع والطاعة وتحريك ريشته ورش ألوانه.. ويستوي هذا النوع من الفنانين مع فنان من نوع آخر هو الذي يقرأ النص لا يستوعبه ويخرج منه بالنتيجة إياها.

لكن يظل الديكور في مسرحية (السعد) كعمل حرفي غاية في الإجادة والإتقان، وصانعه (يوسف قاسم) فنان ماهر وخبير في مجال التشكيل.. والنجاح التام ليس حليف الإنسان في كل خطواته.. ولعل السبب المباشر لهذا هو الاقتصار على ديكور ثابت للمسرحية كلها، والديكور الثابت بعد من أصعب المهمات التنفيذية في العمل المسرحي ويصير أحياناً إشكالاً مميزاً للفنان فالنص المسرحي في هذه الحالة يتطلب منه تجميع الرؤية المتناثرة في فصوله في (كل) عام. ولا شك أن التعبير عن الكليات الصغيرة كل على حدة أسهل بكثير من تجميعها والتعبير عنها في (كل) عام.. وهذا ما يجعل الفنان الذي يلجأ إلى الديكور الثابت إلى التخلص من الإشكال بالتعبير الحرفي التزييني.

·        ماذا عن المؤثرات الأخرى؟

الإضاءة لا تزيد عن كونها نقلات لا تتعدى فتح الضوء أو غلقه أو تركيزه بصورة آلية، وليس ثمة مؤثرات أخرى اللهم إلا إذا عد الفاصل الموسيقي من ضمنها وهو على أية حال فاصل فعلاً!!

 

أحمد المناعي.