من الصعب الخوض في الحديث عن عمل فردي جماعي. إذ أن نجاحه أو عدم نجاحه مرهون إلى حد كبير بقدرة التفكير والتفسير، وهذا صعب، بل يكاد يكون مستحيلاً، لأن حرية الإنسان الأصلية من الداخل، تتكثف حيث هو مختلف، ولو لم يكن مختلفاً، لم تكن هناك حاجة إلى وجوده. وينمو هذا الإحساس في نفوس المبدعين ويتأصل. فلهذا نجد ذلك الاختلاف في فهم وتفسير العالم الخارجي المحيط، باختلاف الأشخاص الذين يشعرون (مع أنهم يعيشون في مجموعة) بأنهم مختلفون. لو كان الأمر متعلقاً بشخص واحد، فنان تشكيلي مثلاً، لكانت القضية أقرب إلى التناول والمعالجة، ولما ضاع المرء في متاهات الاختلافات والتناقضات التي لا يمكن الإحاطة بها من الداخل، مع أن مظهرها الخارجي يمكن أن يوحي بنوع من التلاؤم، وذلك تبعاً لاختلاف المسؤولية بين فرد وآخر في العمل الجماعي، وقيمة الدور الذي يشارك فيه الفرد في إطار المجموعة. وفي هذا الأسبوع – أخوض تجربة شائكة عند محاولتي الحديث عن المسرح. وعن مسرحية (السعد) التي تعرض الآن في دمشق، وهي من تأليف المسرحي المغربي (الطيب العلج) وإخراج المخرج السوري (أسعد فضة). تمتد علاقتي الشخصية بالمسرح إلى أواخر الخمسينيات، حين شكلت فرقة المسرح القومي، وكنت أشارك هذه الفرقة بتصميم الديكور حيناً، وتصميم الأزياء أو الأزياء والديكور حيناً آخر، إلا أن هذا العمل جعلني حينذاك أشعر بأنني مرتبط ارتباطاً وثيقاً ليس بالعمل فحسب، بل بالأشخاص الذين يشتركون في تقديمه، وأنني مسؤول – على نفس المستوى – عن نجاح العمل أو إخفاقه، نتوحد شيئاً فشيئاً حتى نصبح واحداً بالفعل، وكنت قبل ذلك (أي قبل عملي مع المسرح القومي) متفرجاً بالنسبة للمسرحيات، وكان هذا الموقف يسمح لي أن أوزع الإعجاب وعدم الإعجاب (ربما بسبب السن أيضاً) كما أراه من زاوية نظري الشخصية فقط. ولكنني عندما بدأت بالمشاركة، كنت أنظر إلى الذين يتكلمون سلباً أو إيجاباً، على أنهم أناس خارج العمل، ولا يستطيعون أن يقدروا مدى ما بذل في سبيل تقديم العمل على ما هو عليه، مع أن الجمهور معذور، فهو يتوقع أن يرى دائماً عملاً ناجحاً. ولهذا، فعندما قررت الدخول في هذه التجربة في المسرح الآن، رأيت أنه من الإجحاف أن أبقى جالساً في مقعدي وأشاهد المسرحية، وأطلق الحكم دون محاولة كشف وفهم ما يجري وراء كواليس المسرح، هذه الأمور التافهة في نظر البعض، والتي تشكل مجموعة علاقاتها – بالنسبة لي – العمل الأخير المتكامل الذي نشاهده ونحن مرتاحون في مقاعدنا (تمر ببالي صورة ممثل مسرحي في أوائل الستينات، أغمي عليه قبل دخوله الخشبة بخمسة دقائق، وكنا نحضر لليلة الافتتاح، ومقدار الذعر الذي أصاب الجميع، والتهافت على إسعاف الممثل من قبل كل من كان يعمل وراء الكواليس، بينما كان زوار الكواليس ينظرون بحياء). فقررت بعد رؤية المسرحية، أن أنسل إلى خلف الكواليس، محاولاً أن أجد الوثائق المتممة لما وصلت إليه من قناعات وأحكام على المسرحية، وهكذا بدأت جولتي، التي لا أحب أن أذكر عند سردها أسماء من قابلت، لأنني وعدتهم بذلك احتراماً للثقة التي أولوني إياها بكلامهم بصراحة، وحباً في أن تكون بيننا ثقة متبادلة نستطيع من خلالها أن نقدم شيئاً مفيداً. مع أن بعضهم لم يستطع الثقة بي، وكان كلامه صحفياً، توقع أن ينشر اسمه بجانبه، وذلك بعد أن أخرق الوعد الذي قطعته أمامهم على نفسي. ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من الجهد لكي يستطيع التفريق بين هذين النوعين من الكلام. بعد رؤية المسرحية. تكونت عندي فكرة معينة عنها، بالإضافة إلى تساؤلات تنتظر جواباً ما، وكنت قد قررت الأجوبة التي يمكن أن تعبر عن وجهة نظري، ولكن ذلك بدا لي شخصياً جداً، فقررت أن أطرح هذه الأسئلة على بعض الممثلين (على اختلاف مواقفهم) واستجمع من كل هذا نتيجة يمكنني أن أقول عنها أنها خلاصة، وخلاصة مفيدة. لأنها لا تقوم على نظرة الجالس في المقعد فقط (والتي تكون سخيفة أحياناً). بل تقوم على مزج مجموعة الانطباعات التي خلفتها المسرحية لدى الجمهور والممثلين على السواء. وسوف أستثني المخرج بعض الأحيان في الإشارة إلى اسمه وكلامه، وذلك بالإذن منه. سألت المجموعة طارحاً قناعاتي، عن المسرحية. وعن إمكانية وجود مسرحيات مشابهة، وعن مدى استيعاب الموسم لهذا النوع من المسرحيات، وعن جدوى تقديمها، وعن قناعاتهم بأدوارهم المسرحية لهذا النوع من المسرحيات، وعن جدوى تقديمها، وعن قناعاتهم بأدوارهم في المسرحية، وعن مدى تلاؤم ما قدموه مع ما يحبون أن يقدموا ومع ما يريد لهم المخرج أن يفعلوا. سألتهم عن الجمهور وعن رد الجمهور. عن طول المسرحية، عن المشاهد التي لا يؤثر إلغاؤها على المسرحية كعمل. بل يمكن أن يكون إلغاؤها إيجابياً. عن الديكور وعلاقتهم به، عن الكاتب ورأيهم الشخصي في ما كتب. إلى آخر هذه الأسئلة التي تتداعى واحداً بعد الآخر في جلسة لا يعكر صفوها وحش الصحافة، ولا تخوفات خيانة الوعد. وكان تناقض الأجوبة شيئاً مثيراً جعلني أغير الهيكل العام لمقالي حتى أتى بهذه الصورة. ولا بد لي، قبل الخوض في سبك بعض هذه الإجابات في قالب واحد. من الإشارة إلى أن الذي دعاني إلى الكتابة عن المسرحية هو شعوري بأنها أفضل عمل مسرحي قدمه لها المخرج (أسعد فضة) إلى الآن. ولا يطلب أحد الكمال، لأن الكمال – كما تعلمون – لله وحده. تتحدث المسرحية عن معلم لغة (الفقيه عصفور)، حاول يجد سعده، ولما تم له ذلك تورط في مشاكل لم يكن ليحلم بها، وتكشفت له (في بعض الأحيان) نفسه العميقة. حتى بدأ يلعن السعد وساعته، ويقرر إنهاء حياته بعد أن رأى أن الورطة لا تجره إلا إلى ورطة أكبر، تبعده عن نفسه، وتدمر كل آماله (آمال كل الناس) في العيش دون مشاكل، وكل ذلك في إطار حكاية يفترض أنه لا زمن ولا مكان لها، باستثناء بعض الإشارات التي تحدد تواريخ معينة، كذكر اسم (روميو) مثلاً، (وكم كان ذلك سخيفاً في النص لأنه مضاف بصورة فجة إلى قصة توحي كلها بأنها شرقية)، وكم كان حرياً بالمخرج أن يحذف هذا الاسم. وتستغرق المسرحية من الوقت مدة ثلاث ساعات ونصف (وذلك مع الاستراحتين)، وقد كانت في نظر الأغلبية طويلة يمكن اختصارها دون الإضرار بها، وكانت متعبة للممثلين والجمهور على السواء. وكان هذا رأيي، وكنت أرى أن هنالك مقاطع كان من الممكن إلغاؤها دون التأثير على البناء المسرحي، وخاصة الرقصة التي قامت بأدائها عضوات من فرقة أمية للفنون الشعبية. فأنا (بغض النظر عن جمالهن، أو جمال بعضهن) لا أستطيع إلا أن أرى في الرقصة قطعاً جارحاً للمسرحية وأحداثها، وتحويلاً للمخيلة إلى دروب جانبية أخرى. حتى يكتشف المتفرج عند انتهائها أنه ما زال يشاهد مسرحية. ولكن قناعة المخرج تقول أنه قد اختصر من المسرحية أكثر من ثلثها، ثم اختصر أيضاً أثناء التمارين، وكان هذا الاختصار هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه. (ولاشك أنه اختصر كثيراً من الحشو اللامجدي فالمسرحية كما هي في الأصل يمكن أن تستغرق أربع ساعات ونصف ونيف). أما عن الرقصة، فقد قال المخرج أنها كانت ضرورية لتساعد في تصوير الجو الذي يعيش فيه الفقيه عصفور مقلداً الباشا. واسترسلت في الحديث مع المخرج فسألته عن سر الإصرار على تقديم الجو باستعمال أساليب حسية جداً تعطي إيحاءات جنسية قوية. فكان جوابه أنه أراد أن تكون المسرحية مقنعة في الأحداث حتى تسيطر على المتفرج وتجعله يحس إحساساً قوياً بما قصد المخرج والمؤلف على السواء من الحوادث التي تدول حول القصة. لم يكن دور أي ممثل هو الدور (الحلم) بالنسبة له. وذلك على عدة مستويات. فمنهم من قال أنه لا بأس به، وأنه لمسة حلوة. ومنهم من كان يستعد للظهور على الخشبة قائلاً أنه غير مقتنع بما يعمل. ولكنه يحاول أن يقدمه جيداً (وفعل). أما عن الحركات التي رأيتها زائدة في المسرحية (باستثناء بعض الأدوار) فقد دافع عنها البعض على أنها من صميم العمل، وبأنه مقتنع تماماً بها، وقال البعض أنها زائدة، ولكنه لا يستطيع إلا أن يقوم بها إما استجابة لطلبات المخرج، أو محاولة شخصية للإقناع بالواقعية، وذلك باستعمال الحركات المبالغ فيها. ويأتي الحديث عن الديكور الذي (بالإذن من المصمم) اختلف عليه المخرج والمصمم، وكان لكل منهما وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر الآخر، فالمخرج يعتبر المسرحية واقعية إلى حد كبير والمصمم يعتبرها رمزية إلى حد كبير. وهكذا قدم عملان مختلفان في آن واحد، وعلى مكان واحد. إلا أن المخرج حسب حسابه لهذا ولذلك فقد ألغى الديكور، أو الخلفية الأساسية منه أثناء التمثيل، وهذا في رأيي أضعف الإيمان، إذا كان يجب عليه أن يلغيه فعلاً ويمثل على ستائر سوداء إذا لم يتلاءم أو لم يتعاطف مع الديكور، أو إذا كان الديكور يتبنى وجهة نظر مغايرة لقناعاته. ولاشك في أن للمخرج الحق في طلب شيء معين في الديكور، لأن له الكلمة الفصل أخيراً، ولأنه المسؤول عن جمع الشتات من هنا وهناك ليؤلف وحدة متكاملة.و لكن رأيي أن هنالك انفصالاً يكاد يكون دائماً في بلادنا بين المخرج ومصمم الديكور، لأن المخرج يعتبر الديكور من الشكليات، ومصمم الديكور يريد أن يبرز عمله الشخصي في المسرحية (ولا أقصد هذه المسرحية بالذات) وهكذا يحدث أحياناً أن يكون العملان مستقلين عن بعضهما، لا تستطيع يد المخرج أن تطالهما بالتقريب والتوحيد. قد أكون في موضوعي هذا قد اهتممت بالجزئيات دون أن أتعرض للعمل ككل، ولكنني أحب أن أقول أن الكل يصعب الحصول عليه إلا بالمشاهدة، وأحسن شيء يفعله القارئ هو التوجه إلى المسرح لحجز بطاقته بدل الذهاب إلى مقهى والاستغراق في رؤية الأوراق الملونة بالأسود أو الأحمر، والتي تتابع أرقامها من الواحد إلى العشرة، وبأتي بعد ذلك الشاب والسيدة والملك. لقد جمعت من حديثي مع المشتركين في المسرحية، أفكاراً لا يمكن أن أضعها مرة وحداة في حيز ضيق، وهي تحتاج إلى زمن وحيز أكبر، لأن التحدث إلى إنسان آخر ليس شيئاً ثانوياً، ولا عابراً، إنه الزاد الذي نحتاج إليه دائماً، وخير عزاء لي أنني حصلت على كثير من الزاد في لقاءاتي مع المجموعة. ومازالت أمامي فرصة هضمه وتمثله والحصول على غيره. وأخرج من هذا الموضوع (وقد يتهمني البعض بأنني أتحدث عن المسرحية) بقناعة أكيدة، وهي ضرورة إقامة ندوات فنية يشترك فيها الممثلون والمخرجون والعاملون في المسرح عموماً لبحث كافة القضايا التي تجعل من العمل المسرحي ظاهرة طليعية. وأن لا تقف علاقاتهم عند حدود الوظيفة. إذ أنه دون أن يتأكد عامل الارتباط، لا يمكن أن يكون هناك عمل خلاق في مسرح طليعي. الندوات، والمصارحة الحرة، مفتاح جيد لتقارب الأفكار وتلاحمها، ومدها دائماً بسيل من المفاهيم الجيدة التي تسهم في خلق المسرح الطليعي القادر.. فلنفتح الحوار، لأنني وجدت في كل شخص تحدثت إليه، شخصاً فرداً أنه يحاول بجهد وإخلاص أن يصل إلى الآخر، فأنه يجد الطريق مسدودة بصورة ما. ولا يصل إلى غايته، وتبقى الأمور تقام بصورة فردية، حتى في العمل الجماعي.
عبد القادر أرناؤوط.
|