ليست هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها الجمهور في ألمانيا الديمقراطية مسرحية: فقد قدمت فرقة المسرح الوطني في فايمار عام 1973 بنجاح مسرحية: (مغامرة رأس المملوك جابر). أما هذه المرة فقد تمكن جمهورنا من التعرف على مسرحية جديدة للكاتب هي مسرحية (سهرة من أبي خليل القباني) قدمها له وباللغة العربية أعضاء فرقة المسرح القومي السورية خلال المهرجان التاسع عشر للموسيقى والمسرح الذي يقام كل عام في برلين، وضمن إطار الفعاليات الكثيرة التي يتضمنها تنفيذ الاتفاقية الثقافية بين جمهورية ألمانيا الديمقراطية والجمهورية العربية السورية. لاشك بأن تقديم مسرحية ما أمام جمهور لا يعرف اللغة التي تقدم فيها المسرحية يعتبر في حد ذاته مغامرة. يضاف إلى هذا كون هذه التجربة هي التجربة الأولى من نوعها بالنسبة لفرقة المسرح القومي، إذ أن أعضاءها وقفوا لأول مرة أمام جمهور أوروبي لا يعرف لغتهم. ولكن على الرغم من هذا فقد برهن نجاح العروض التي قدمت في بلاون وساجدبورج وبرلين على تفهم الجمهور الألماني للمسرح العربي. فمن خلال التقسيم المرئي لخشبة المسرح تمكن المخرج من الفصل بين المستويين الرئيسيين اللذين يدور فيهما الحدث التاريخي المتضمن لتصارع فئات اجتماعية مختلفة في القرن التاسع عشر من جهة وقصة مسرحية (هارون الرشد مع غانم بن أيوب وقوت القلب) للقباني الذي تدور حول نضاله من أجل خلق مسرح عربي في دمشق من جهة أخرى. وقد أدى ذلك إضافة إلى الفعل المسرحي الحي والأداء الذي ركز على الحركة الإيمائية إلى تمكين الجمهور الألماني من فهم الخط الأساسي للمسرحية على الرغم من حاجز اللغة. ولا بد لنا من أن نضيف إلى أن ما جاء في الكراس القيم من إيضاحات وافية حول تطور المسرح السوري عموماً والمسرح القومي خاصة، وحول الكاتب والمسرحية إلى جانب التعليقات التي قدمها من على خشبة المسرح الدكتور عادل قرشولي باللغة الألمانية خلال العرض حول الحدث المسرحي والخلفية التاريخية، ساهم كذلك مساهمة كبرى في توصيل جوهر المسرحية للجمهور. تجري أحداث المسرحية كما سبق وذكرت على مستويين رئيسيين: المستوى الأول يقدم لنا محاولة أبي خليل القباني خلق مسرح تقدمي في دمشق في النصف الثاني من القرن الماضي والمستوى الثاني يعرض علينا بعض الأجزاء من مسرحية للقباني نفسه بعد أن أجرى عليها المؤلف بعض التعديلات الطفيفة. وهذان المستويان يتقاطعان ويتداخلان في حركة مستمرة. إن إيجاد علاقة بين خشبة المسرح والصالة هو أحد الأهداف الرئيسية التي يطمح لتحقيقها سعد الله ونوس. من هذا المنطلق يحاول بناء مسرحياته بحيث يسهل على الجمهور إيجاد هذه العلاقة التي تمتد حتى لتشمل أحياناً محاولة إدخال الجمهور في الحدث المسرحي. ففي بداية مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) مثلاً – يدخل بعض الممثلين (كمتفرجين) إلى الصالة ليجلسوا في الصف الأول ويعلقوا على الحدث، وتقابل تعليقاتهم بتعليقات مضادة أحياناً من قبل الممثلين. ولا جدال بأن مشهد المشاجرة التي تحدث في مقدمة الصالة بين هؤلاء (المتفرجين) حول أحد المشاهد والذي يضطر فيه الممثلون الآخرون إلى مغادرة خشبة المسرح للتفريق بين المتخاصمين شكل عنصراً مسرحياً ناجحاً في محاولة إيجاد التواصل المتوخى في محاول إيجاد التواصل المتوخى بين الصالة وخشبة المسرح، ولكن المؤلف لا يلبث أن يتخلص من هؤلاء (المتفرجين) فيخرجهم من الصالة احتجاجاً على مشهد آخر. ولا ينكر أن استخدام هذه الوسيلة كان من العناصر المسرحية التي أثارت إعجابه وشدته إلى الحدث. وثمة مشاهد أخرى كانت ممتعة بالنسبة للجمهور الغريب، نذكر منها على سبيل لا حصر له: - مشهد العجوز المرتجفة التي روت قصة قوت القلوب. - مشهد الفتاة الخجول التي قام بدورها في مسرح القباني رجل. - ردود فعل قوت القلوب وغانم على كلمات الملقن. - مشهد النهاية السعيدة الساذجة لقصة الحب التي جاء أشبه بفرقعات الألعاب النارية في ختام احتفال. لكن هذا لا يعني بالطبع أن تفهم الجمهور للمستوى الثاني للحدث الذي يتمثل في نضال القباني لخلق مسرح عربي في دمشق في ظل ظروف السيطرة الاستعمارية الصعبة كان أقل من تجاوبه مع المستوى الأول. فالحدث هنا ليس حدثاً تاريخياً له علاقة بالحاضر، ليس قصة تهمنا لغرابتها، بل هو حدث لعصرنا. فالقباني في المسرحية هو قريب منا، نضاله يستوجب تعاطفنا، وهزيمته تبعث في نفوسنا الأسى. هذا لأن سعد الله ونوس لم يهتم بمصير هذه الشخصية كإنسان فحسب، بل ربط نجاح محاولته وفشلها بالقوى التي وزعت على يمين خشبة وعلى يسارها، قوى رجعية متحالفة مع الأتراك، وقوى تقدمية متحالفة مع الشعب. وقد كانت قوة هذه القوى أو وصفها هما العنصرين الحاسمين في تطور أو جمود التجربة المسرحية للقباني. فحركة التحرر الوطني مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطور مسرح قومي. ومن هنا تنبع العلاقة بين الماضي والحاضر: إذ أن المسرح العربي الفتى الباحث عن هويته يريد أن يحقق ذاته من خلال كشف ماهية تقاليد المسرح العربي، فالقضية الجوهرية هن أساساً سواء بالأمس أو اليوم هي قضية السيطرة الاستعمارية الطويلة وآثارها المتبقية. وفي خضم محاولة التخلص من هذه الآثار يندمج التحرر السياسي بالتحرر الثقافي، ويتطلب التحرر الحقيقي وعياً قومياً تقدمياً يعتبر تكوينه وتطويره في وقتنا أحد أهم الأهداف الملقاة على عاتق المسرح. لقد تمكنت العروض من توصيل هذا المحتوى في خطوطه العامة إلى الجمهور في ألمانيا الديمقراطية من جهة وحمله على التجاوب مع هذا المحتوى من جهة أخرى. وفي هذا الصدد قال أسعد فضة مخرج المسرحية: (كان تجاوب الجمهور مع عروضنا سواء في بلاون أو ماجدوبورج أو برلين مشجعاً للغاية. لم يكن هذا التجاوب بأقل من تجاوب جمهورنا في دمشق على الرغم من أن الجمهور هنا لا يفهم اللغة. كان الجمهور هنا وكأنه يعرف المسرحية من قبل.) وفي المقابلة الحارة والمفيدة جداً التي جرت بين أعضاء فرقة المسرح القومي وعدد من المسرحيين في ألمانيا الديمقراطية في النادي المركزي لنقابة الفنانين ببرلين عبر المؤرخ والعالم المسرحي الدكتور يواخيم فيباخ عن رأيه في العرض على الشكل التالي: أثار انتباهي في العرض جانبان رئيسيان: فمن ناحية يمكنني أن أعتبر المسرحية بحثاً في النقد الاجتماعي حول المجتمعات المضطهدة في تلك المرحلة التاريخية وبصفة عامة. ومن ناحية أخرى: كانت المسرحية ممتعة للغاية، لا بالنسبة للمتفرجين فقط بل وكذلك بالنسبة للممثلين أنفسهم كما تجلى هذا بوضوح. أما راينر كيرندل الكاتب والناقد المسرحي المعروف فقد كتب في مقال نشر في جريدة (نوير دويتشلاند) لسان حال الحزب الاشتراكي الألماني الموحد بما يلي: (إن المسرحية فانوس التي قدمتها فرقة المسرح القومي السورية للجمهور الألماني تمثل إلى حد كبير قصة المسرح العربي على خشبة المسرح. فهي بجانب ذلك تعرض قضية النضال الوطني في جوانبه الثقافية وسياسة الفكر. أن الصراع من أجل خلق مسرح وطني عربي، والذي يندلع أوراه في آخر مشاهد المسرحية، حيث نرى الجنود الأتراك يطردون الممثلين من على خشبة المسرح، هو في الحقيقة أحد البعد الثاني فيتمثل في عرض لبعض مقاطع إحدى مسرحيات القباني نفسه بكل ما تحمل من ملامح أسطورية. إن المسرح الشعبي والنضال من أجله يظهران من خلال العرض بصورة متداخلة. بهذا العرض الذي قام بإخراجه أسعد فضة حمل المسرح القومي من دمشق إلى مهرجانات برلين أحد الأمثلة المليئة بالمعلومات والألوان الزاهية عن نشاط المسرح العربي المعاصر.
ر.ك
|