مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


جاء المسرح القومي السوري أخيراً، ليمسح بعض التفاهات التي شاهدناها في الكويت قبله مباشرة، جاءنا هذا المسرح جاداً، ملتزماً، يحمل اسم بلده، مدعواً من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب من خلال دراسة وتدقيق..

وتاريخ المسرح القومي السوري قصير، لكنه كبير.. فمنذ لحظة ولادته، استطاع أن يضع لنفسه  خطاً، هدفه الأول والأخير أن يقدم للناس مسرحاً جاداً.. كما يجب أن يكون عليه المسرح الذي يحمل رسالته.. وخلال مسيرته، استطاع هذا المسرح أن يخلق فنانين، وأن يخلق كتاباً.

سعد الله ونوس مثلاً، هو واحد من الذين ولدوا بين يديه، وقد جاءت ولادته ناضجة. فبعد تجربة أولى في المسرحيات القصيرة، جاءت تجربته الثانية في المسرحية – الضجة (حفلة سمر من أجل 5 حزيران).

ثم تتالى الإنتاج.. وقدم سعد الله ونوس (رأس المملوك جابر) التي أتقن تنفيذها المسرح الشعبي في الكويت لهذا الموسم، فعرف الناس على أسلوب خاص في التأليف المسرحي..

ومسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) هي تكريس لهذا الأسلوب الجديد.. أسلوب التعامل مع التراث، شكلاً، وموضوعاً، مع محاولة تقديمه للحاضر.. بفكر الحاضر وتطلعاته..

مسرحية (القباني) من حيث الشكل قريبة الشبه بمسرحية (المملوك).. ولكنها تؤكد تطور الصنعة المسرحية عند مؤلفها. فإذا كانت (المملوك) تقدم بمستويين.. وأحد من الماضي، وآخر من الحاضر.. فإن (القباني) تقدم بعدة مستويات، أبرزها الماضي البعيد – عصر هارون الرشيد – ثم الماضي القريب – عصر أبي خليل القباني – ثم الحاضر، متمثلاً بالمتفرجين الحقيقيين والراوي..

والحكاية التي تقدمها المسرحية، مؤلفة من مجموعة حكايات، لا يستطيع إلا كاتب قادر أن يجمعها بإتقان.. وقد فعل سعد الله ونوس ذلك.. فهناك حكاية للقباني نفسه، تاريخاً ومعاناة.. وهناك المسرحية التي يقدمها.. والتي حافظ فيها المؤلف على لغة قريبة من لغة العصر الذي قدمت فيه، وحافظ فيها المخرج على أسلوب الأداء..

وهناك حكاية السياسة، والنضال في عصر القباني.. وهناك أيضاً حكاية الصراع الاجتماعي، بين القديم والحديث.. وفي هذا الصراع، تكمن أهمية المسرحية.. (سهرة مع أبي خليل القباني) تثير نقطة أساسية من وراء كل ما تقول، هي النقطة التي تثار الآن، وفي كل آن.. هي نقطة الصدام بين الجديد المتطور.. والجامد المتحجر..

وهي مسرحية تتحدث عن المسرح أولاً، ولكنها تتخذه كمثل للجديد، لتعرض به ما يعانيه الجديد من حرب، قبل أن يستطيع الوقوف على قدميه.. والمسرحية لم تترك الحوار حول المسرح منفصلاً عن كل ما حوله. المسرح حركة جديدة ومتطورة في المجتمع، وهو مرتبط بكل الحركات المشابهة: السياسية، والثقافية، والاجتماعية. ففي الوقت الذي كان فيه أبو خليل القباني يحاول أن ينشئ مسرحاً، ويصارع القوى المتخلفة التي تقف في وجهه. كانت الاتجاهات القومية تصارع الحكم التركي، وتتعرض للتنكيل.. وكانت الحالة الاقتصادية والسياسية تسوء..

وقد استطاعت المسرحية أن تقدم كل هذا، تاريخاً، وفكراً.. وهنا تكمن قوتها السياسية. النقاط الأساسية في الصراع، التي قدمتها المسرحية كانت نقطتين متناقضتين: الأولى هي الإيمان بالمسرح عند القباني، والصراع من أجله، والثانية هي مجموعة من الذين يسعون لبقاء الأمور على حالها، ممثلة بالشيوخ، الذين لا هم لهم إلا تبرير ما تفعله السلطة العالية، وتفسير كل النوائب التي تمر بالبلاد تفسيراً يتفق مع مقام السلطة.

هذه الفئة ركزت كل جهودها في محاربة القباني، لا بالفكر، وإنما باستعداء السلطة، وبترديد أسباب لمعارضتها لا تخرج عن الاتهام بالزندقة، والفساد.. وهي الأسباب القديمة الجديدة.. وقد وصل الأمر مع هذه الفئة إلى حد معارضة الوالي الذي فتح نافذة للإصلاح، استطاعت الحركات العربية الفنية أن تنشط من خلالها، ثم اتسع حتى وصل إلى حد استعداء السلطان نفسه على القباني.. وحرق مسرحه..

وكان موقف القباني هو الموقف الأكثر أهمية في العمل.. القباني.. يعني في ذهن سعد الله ونوس، الفكر الجديد، والفكر الجديد إيمان وعمل.. ومثابرة لا تعرف اليأس، رغم كل المصاعب.. القباني آمن، وعمل عملاً متواضعاً من داخل المنازل، حتى عرف بعمله، فخرج إلى الناس.. وصار قوياً، ثم انتكس، لكنه لم ييأس.. وعادت إليه تجربة القوة فعمل.. وجاءت نكسة كبرى.. لكنه حتى النهاية لم ييأس..

وهكذا يكون الفكر الجديد في كل عصر: يبدأ الطريق خطوة خطوة، وينتشر، ويسرف، وينتكس، لينهض.. ويعود من جديد.. ويحارب كل المعوقات.. حتى يصل في النهاية إلى ما يطمح إليه.. وحتى توضح المسرحية فكرها، وعموميتها – رغم اتخاذها مسرح القباني كنموذج فقط – وضعت في داخلها إشارات: فهذا صاحب الأرجواز يحارب المسرح، من واقع اقتصادي، لأنه يؤثر على مهنته، وهؤلاء الشيوخ يحاربون المسرح، لأنه يتقدم عليهم في تثقيف الناس، وقد يأتي اليوم الذي (يشخصهم أو يشخص أمثالهم من الوجهاء).. فتضيع قيمتهم ويهتز مركزهم.

وبالمقابل.. هناك الشباب الذي يبدو متردداً أمام ما يجري على مستوى السياسة، حتى يفتح ذهنه من خلال زميل متنور (يرتدي الملابس الحديثة).. فينتهي تردده، ويبدأ مرحلة إيجابية من النضال القومي.

باختصار.. المسرحية تدعو إلى الجديد.. وهي في هذا تقدم صورة من واقع سابق، يستطيع المشاهد أن يحملها كصورة، وأن يضع تفاصيلها في واقع معاصر.. ومناسب، حتى يلاحظ أن المسرحية تتحدث إليه بلغة العصر، وبقضايا العصر أيضاً.

وهذا تطبيق ناجح  لما يدعو إليه الأدباء – وخاصة الشباب – من استخدام التراث في معالجة قضايا العصر، وفي ذهنهم أمران: الأول هو أن تكون للمسرح العربي شخصيته، حين يستفيد من الشكل.. ومن المضمون. والثاني هو إحياء التراث نفسه كجزء من حضارة الإنسان العربي، وذلك بتقديمه بالصورة التي يقبلها إنسان هذا العصر.

وقد نجح سعد الله ونوس في تحقيق الهدفين. ونجح المسرح القومي السوري في تقديم الكلمات المكتوبة على الخشبة.. إخراجاً قام به أسعد فضة.. وتمثيلاً قام به نجوم المسرح.. فمسحوا بعض الآلام التي تكدست قبلهم بقليل.. بسبب المسرح التجاري المتهاوي.. فإلى مزيد من هذا المسرح... إلى مزيد.