مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


مسرحية (القباني) بالأساس هي مسرحيتان في عرض مسرحي واحد، أو قل هي مستويان: يتحدث الأول عن أبي خليل القباني، ومحاولته إرساء مسرح في القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1865، والظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تتميز بها تلك المرحلة، وما تتسم به من سمات، وانعكاس  هذه الظروف على محاولة القباني. أما المستوى الثاني فيستلهم التراث العربي، ويسلط الضوء على جانب هام من ماضينا، عبر حدث روائي هو: حب غانم أيوب لجارية هارون الرشيد، قوت الطوب، كما كان يقدمها القباني آنذاك.

§        مستويان.. وأربع دوائر

وهذان المستويان عبر عنهما المؤلف، وجسدهما المخرج في أربع دوائر وهي: الدائرة الأولى القباني ومسرحه في العمق. والثانية.. حلقة الذكر على اليمين. والثالثة.. المقهى – الشارع على اليسار.. والرابعة.. قبالة الجمهور وهي لعبة الولاة كما يرويها التاريخ.

والدوائر الأربع هذه.. كانت تسير بعضها مع بعض في عرض مسرحي استخدم فيه الرقص والغناء، والمحاكاة، والموسيقى ضمن خطوات متوازية حيناً، ومتقاطعة أحياناً أخرى، وتكشف هذه الدوائر ليس فقط طبيعة التناقض في المواقف بين الفئات والطبقات الاجتماعية وإنما توظف هذا التناقض في مهمة توضيحية للظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة.

§        مسرح ونوس.. وبريخت

إن سعد الله ونوس لم يتناول القباني كفرد وموقف إلا ضمن الظروف الاجتماعية والمفاهيم التي كانت تسود في فترة من أدق فتراتنا التاريخية وهي بدء النهضة وعصر التنوير، ومرحلة التكون القومي العربي، معتمداً في ذلك على الحقيقة المادية التي تقول: "ليس وعي الناس هو الذي يقرر وجودهم، ولكن على العكس من هذا، فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر صورة وعيهم".

في مسرحية (القباني) نحن أمام عمل بريختي مئة بالمئة، ولكن بصيغة عربية، وبفهم عربي لعلاقات الإنسان بالمجتمع، ولقضاياه الأخلاقية والسياسية، فكما كان بريخت يستخدم الأسطورة والحكاية الشعبية والقصص الخرافية والموسيقى والرقص والمحاكاة، كذلك ونوس استخدم ذلك كله في مسرحيته، ونجح المخرج أسعد فضة في توظيف ذلك فنية بشكل أوصل للجمهور جملة القضايا والمفاهيم التي تناولها ونوس في نصه المسرحي.

§        سهرة غنية..

تبدأ المسرحية بقرع الطبل، ودعوة المنادي لحضور مسرحية السهرة، تماماً كما كان الحال عند القباني قبل مائة وعشرة أعوام. يقول المنادي: سهرتنا هذه الليلة مليئة، وغنية بالحكايات، خيالية وواقعية، فيها غناء ورقص وتشخيص. ثم نبدأ نتعرف على الملامح الأساسية لذلك العصر، كل دائرة.. أي كل فئة اجتماعية تمثل مفهوماً من مفاهيم المجتمع تقوم بالتعبير عن نفسها.. فماذا نجد؟

 

§        القباني.. وفن التشخيص

1-    القباني وجماعته وكيف بدأ العمل، ومحاولته تقديم رؤية (ناكر الجميل) التي قدمها في بيت جده، والصعوبات التي تعترضه كإسناد دور امرأة لشاب لأن الوضع الاجتماعي يرفض مشاركة المرأة للرجل. ومفاهيم القباني حول المسرح، وبعض رؤياه الفنية والاجتماعية.. يقول: كل شيء يبدأ صورة في الخيال ثم يتحقق. والإقناع أساس فن التشخيص. وسيحدث يوماً أن تشخص امرأة في الشام أي تظهر على خشبة المسرح.. وترى أيضاً استفادته من تعاقب الولاة والتشجيع الذي لاقاه من بعضهم، وكيف أقام مسرحاً عاماً في كازينو الطليان في باب الجابية.. وإصراره على ضرورة توفر العزيمة حتى يحقق ما يريد.. وأخيراً يغادر سورية بعد إحراق المسرح من المتزمتين إلى مصر، ليواصل مسيرته الفنية.

§        التشخيص بدعة وحرام

2-     المحافظون والمتزمتون، وهم الذين يقفون ضد القباني لأن عمله ضلال، وكالهواء الأصفر، ينشر الفساد، ويفسد أخلاق العامة.. فكيف، يتساءل هؤلاء يترك القباني حلقات الذكر إلى هذه الأعمال (الشائنة).. إنها بدعة، ولا يجوز السكوت عنها، ولا يجوز أن تخرج إلى الناس، والتشخيص كالتصوير كلاهما حرام في الدين. إنه بدعة وكل بدعة حرام. وهؤلاء من خلال علاقاتهم المصلحية بالسلطة العليا يتصدون للقباني ويعملون على إفشاله، وينجحون في ذلك حيث يقومون بتهديم حرمه وحرق أثاثه.

§        التكون القومي والدعوة للتحرر

3-    دعاة التحرر والنهضة، هؤلاء ليسوا في صراع فقط أو تناقض مع السلطة السائدة – العثمانية، وإنما أيضاً في حالة تناقض مع المحافظين، وهم من المؤيدين لمحاولات القباني أيضاً. فكيف عبر دعاة التحرر والتنوير عن موقفهم؟.. الجواب: هو أن البلاد الأوروبية تسبقنا ولا بد من التقدم. والمسؤول عن التأخر هو الدولة العثمانية نتيجة الفساد والاستبداد. إن كياننا لن يشتد مع التأخر والجهل، وإقامة مسرح هو خطوة هامة إن لم نشجعها سيقتلها الجهال والمحافظون.

§        لعبة الولاة.. مسلية وجارحة

4-    الولاة، وهم الذين يمثلون البناء الفوقي السلطوني والاستبدادي. فبين عامي 1879- 1971 تعاقب على الشام أحد عشر والياً. فلا يكاد يصدر فرمان التعيين، حتى يكون فرمان العزل قد سبقه. إن لعبة الولاة التي عاشها شعبنا كانت مسلية، ولكنها جارحة. كانوا يواجهون مشاكل الناس باللامبالاة، وعدم الاكتراث، وكأنه ليس ثمة مشاكل طالما أنه ليس هناك تعد على مصالح الدولة . ومن بين الولاة، يبرز صوت الوالي مدحت باشا الذي عرف بأبي الدستور. ففي عهده انحسر المد المحافظ الرجعي، وازداد المد التحرري القومي العربي، فدعاة التحرر استفادوا من الانفراج النسبي الذي ساد فترة ولايته (الدستور – الحرية – إلغاء السخرة - تمثيل الولايات – نشر التعليم – اعتماد اللغة العربية في المحاكم) إلخ.

 

 

§        المسرحية بين ونوس وفضة..

لقد استطاع المخرج أسعد فضة أن يجسد أبعاد هذه الدوائر فنياً، وبصيغة أبعدت الملل، المتوقع أن يخيم على العرض بما تضمنته المسرحية من وثائقية، وساعده على ذلك الرقص والغناء وهي من صلب المحتوى.

إن ونوس وفضة في هذا العرض المسرحي يؤكدان ليس فقط على أنه من الضروري استلام التراث كمحاولة في فهم الواقع وأبعاده على المستوى الفني، وتقريب الماضي نحو الحاضر.. وإنما أيضاً يؤكدان في الوقت نفسه حقيقة هامة وأساسية وهي أن إيجاد مسرح عربي له خصائص وسمات متميزة ليس صعباً.. وهذا الطموح قابل للتحقيق، إذا ما توفر له الفهم العلمي لتناقضات المجتمع، وإدراك قضاياه. ومعرفة طبيعة العلاقات السائدة في عصر معين أو مرحلة تاريخية.. وهذا ما توفر بشكل عام في مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني).

 

أحمد صوان.