اسم برناديللو غالبا ما يقترن في ذاكرتي بقصة قصيرة كانت مقررة في احدى سنواتنا الجامعية و عنوانها : " الحرب " , و مع أنه يستهلها بصورة ساخرة عن امرأة بدينة تتدحرج كالبرميل وهي تصعد الى عربة القطار , فإن القارئ لا يملك الا ان يذرف في نهايتها دمعة مع اولئك المسافرين الذين لم تترك الحرب أحدا منهم دون أن تفجعه بولد أو أكثر .. و حين سمعت منذ أسابيع أن " لكل حقيقته " واردة في عداد المسرحيات التي اختارها المسرح القومي لموسمه الجديد , تملكتني رغبة طفولية بالقفز فوق حاجز الزمن , ولكن سرعة الساعة الدائرة في هذا العصر كثيرا ما تميت فينا حس الانتظار . وفي صيف ريفي غابر , حيث تتسلخ راحتا يديك على عصا الرفش أو المجرفة و انت تسقي مساكب القطن و الذرة , مشاركا اخوتك في شيء من شقوقهم السرمدية , حتى لا تشعر بحرج حين يقدمون لك تكاليف المدرسة أو الجامعة شتاء ... في ذلك الصيف سمعت هذه المسرحية لأول مرة , كان البرنامج الثاني في اذاعة القاهرة ينقلها عن أحد المسارح هناك . و مع تقدم الايام على سماعها فان مشهد " المرأة " الصوتي ما يزال عالقا في ذهني حتى الآن , و لك يكن في وسع احمد عداس , رغم الجهد الصادق الذي بذله , أن ينافس ذلك المشهد أو يجدد روعته , ولا أدري لماذا لم تنطبق صورة المسرحية المرئية على صورتها السمعية , وهذا ما ترك بينهما زاوية كبيرة لم تسمح حتى بتوازيهما , و لا ابغي هنا أن أتهم اداء هذه المسرحية بالقصور فربما اختلفت درجة التأثير بين حاسة و حاسة وبين لحظة و اخرى .... و لكني أتمنى لو توصلت أمثال هذه المسرحية الذهبية الى الاذاعة , ولو بعد عام , حتى يتاح لآلاف المنتشرين في القرى النائية أن يطلعوا عليها , حيث لا يربطهم هناك بالعالم الخارجي المتمدن شيء غير المذياع ! قلت : اتمنى .. مجرد أمنية !! " لكل حقيقته " مزيج من الملهاة و المأساة ( تراجيكوميدي ) تنقلك الى مناخ الواقع الضاحك رغم أبعادها الظليلة الممتدة و التي تشحنها بالخفايا الكئيبة و الرموز الفاجعة : في الحياة الانسانية لا تنفصل الحوادث المحزنة عن السارة في قوالب معدنية مغلقة . وهذا ما يشدنا .. حين لا تتيسر المشاهدة – الى قراء المسرح الحديث ( بما في ذلك ما خلفه شكسبير من تراث يحيا خارج الزمن ) , أكثر مما تشدنا القصة أو القصيدة , فهذه المسرحيات المقتطعة من حياة الناس , بعد أن انهار جدارهم الرابع الذي كان يحجب حقيقتهم عنا , هي الفن الأصيل الباقي . و لكن الحقيقة في هذه المسرحية تبقى مقنعة بأكثر من حجاب كثيف أسود , ولن أسعى هنا الى كشف هذه الحجب من زاويتي , كما ذهب بعض الزملاء , ان ما يهمني هو ذلك اللون المأساوي المتأتي من الآخرين , حين يدسون انوفهم بما لا يعنيهم من أمور جيرانهم الذاتية , في أهالي تلك البلدة لن تجد واحدا ينقب عن الحقيقة المكنونة , حبا بالحقيقة ذاتها كما يفعل العلماء , بل كل ما يمكنك أن تشاهده سيكون – باستثناء لوديزي – خليطا من الطفيليات التي تغرز خراطيمها السامة في ما يخص عائلة غريبة منكوبة . " الجحيم هو الآخرون " ! هذا ما قاله سارتر , وهذا ما تريد أن تؤكده هذه المسرحية في بعض مدلولاتها الاجتماعية , ففي حين تريد أن تخلو لنفسك أو تنزوي بعائلتك في ركن قصي , لسبب أو لآخر , فان عيون الآخرين و أنوفهم و ألستنهم و ربما أيديهم ستحاول جاهدة لاقتحام خلوتك و اغراق حياتك في مستنقعات شكوكهم الموبوءة ... و عندها لن تملك الى الخلاص سبيلا غير تخليك حتى عن وسيلة العيش , كما فعل بونزا حين قدم استقالته بكبرياء غاضبة . مما لا ريب فيه أن أمر هذه العائلة يدعو الى الفضول و لكن هذا الفضول ينبغي أن ينتهي حيث يصبح اساءة و حين يتحول الى سكين تفتق الجراح الباطنة , ولكن السكاكين تستمر بتقطيع الشعور الانساني بشراهة بالغة حتى النهاية , أو ما بعد النهاية , ولعل في الكلمات الحزينة التي رشقتها مدام بونزا أخيرا في وجوه الآخرين درعا يرد تلك السكاكين – و ان جاء متأخرا : " الأمر , كما ترون , متصل ببؤس يجب أن يظل سرا دفينا حتى يمكن للعلاج الذي يفرضه حبنا لبعضنا أن يؤتي ثماره ." وقد عارض لوديزي منذ البداية هذا التدخل الطفيلي في شؤون عائلة بونزا , حين أشار بعصبية الى أن رئيس العمل لا يجوز أن تمتد سلطته الى منزل مرؤوسيه و حياتهم الخاصة , ولكن لوديزي لم يجد من يصغي اليه فلجأ الى السخرية .. وكان المنتصر في الختام , فهو نجم المسرحية بلا منازع , وهو بذلك أشبه ما يكون بشاهد قضية تجري حوادثها في اتجاه خاطئ أمام عينيه , ويحاول مخلصا ايقافها أو التخفيف من اندفاعها المتهور .. ولكن دون جدوى . وهذا ما يجعل صوته العميق الساخر في النهاية شبيها بالكورس اليوناني : " و الآن يا أصدقائي , لقد و صلتم الى الحقيقة .. فهل أنتم راضون ؟!" وفي رأيي أن الغموض الذي يغلف تصرفات هذه العائلة , وبخاصة ذلك التهويل في قصة حب كل منهم للآخر , هو من قبيل الميلودراما , ولكن الكاتب لم يستخدم هذه الميلودراما لذاتها , وانما اتخذها – كما فعل أوكيزي في " جونو و الطاووس " – وسيلة لفضح الآخرين و كشف خوائهم : لقد عاشوا طوال المسرحية ينبشون حول " العائلة المسكينة " و لم نر أو نسمع شيئا عن شؤونهم الخاصة بهم ّ الممثلون بصورة عامة كانوا في مستوى هذه المسرحية الجيدة و قد أدوا أدوارهم بصورة تدعو الى الاعجاب و الأمل في معطيات أتقن ترفع هذا الفن الناشئ عندنا الى محله اللائق بين الأمم , بشار القاضي يقف في المقدمة بالرغم من أن الدور الرئيسي كان من نصيب احمد عداس الذي لم تسمح له عصبيته في البداية من الكلام بوضوح , ولكنه استعاد مكانه بعد ذلك .. لي على بعض الممثلات ملاحظة عابرة : كان هناك بعد واضح بين صوت منى واصف و ايماءاتها الزائدة ( جدا احيانا ! ) , أما ثناء دبسي فقد حافظت على مكانها الذي احتلته في المسرحيات السابقة ...و ربما تمكنت فايزة الشاويش أن تلحق بثناء أو تسبقها اذا استطاعت أن تعيش أدوارها دائما , كما فعلت في هذه المسرحية . و للمخرج أسعد فضة التحية و الاكبار ... |