الأخوة كرامازوف بقلم طارق الشريف المسرح القومي يحقق نجاحا في تقديمه مسرحية ديستوفسكي الشهيرة مجرد تقديم مسرحية من هذا المستوى يعتبر انتصارا للمسرح القومي لا شك في أن مجرد التفكير في تقديم – الأخوة كرامازوف- على مسرح في بلادنا ومن فرقة محدودة الإمكانات المادية والبشرية يعتبر بحد ذاته جرأة عجيبة, قد تصل هذه الجرأة إلى حد عدم التصديق بإمكان النجاح وهذا هو الشعور الأولي الذي يسيطر على الإنسان حين يذهب إلى مسرح القباني ليشاهد المسرحية. - وفي الحقيقة أن الفرق كبير جدا بين تقديم مسرحية لشريدان أو لبن جونسن وهما المسرحيتان اللتان رأيناهما على مسرح القباني وين تقديم الأخوة كرامازوف لأن المسرحيتان تختلفان كل الاختلاف بمستوى النص, وبنوعية الشخصيات, وبالاقتباس ومستوى هذا الاقتباس عن المسرحية الجديدة التي قدمها المسرح القومي إلا وهي الأخوة كراماوزف, وهذا الاختلاف يكاد لا يصدق لشدة التباين بينهما, وإذا أضفنا لذلك اختلاف مستوى التمثيل اختلافا كبيرا بين ما قدم ونراه اليوم تزداد دهشتنا أكثر ... لكان الفرقة التي قدمت الأخوة كرامازوف ليست هي الفرقة التي رأينا لها – فولبوني – و – مدرسة الفضائح - ... ليس عملا سهلا ### وفي الحقيقة أن تقديم ديستوفسكي من حيث المبدأ ليس عملا سهلا, لان شهرة ديستوفسكي ككاتب روائي تعتمد بشكل أساسي على الشخصيات التي ابتكرها والتي يعتبر كل واحد منها عبارة كلة من الآلام والتمزق, وحيث يبدو كل شخص يعيش في صراع نفسي مع نفسه, قبل أن يعيش في صراع مع الآخرين, وحيث تتولد التناقضات من بعضها, الخير يولد الشر, الشرير تلقى كل الخير عنده, والخير تلمس – في أعماقه وقوعا في كل الشرور حيث لا مجال لانتصار الخير في هذا العالم اطلاقا, بل الانتصار لا يكون إلا في عالم آخر, وشخصيات ديستوفسكي لهذا السبب تبدو عميقة صعبة التمثيل لا تتمتع بلون واحد يستطيع أن يقمه الممثل وهو يشعر بأنه يؤدي واجبه تمام الأداء ... إن شخصيات ديستوفسكي لا يمكن أن يكون لها نفس طابع شخصيات مسرحية شيخ المراقبين فلوبوني, إذ إن فلوبوني شخص يمثل البخل , فكرة مجسدة في شخص يتحرك ليكون بخيلا وهذا هو الطابع الأساسي له, وهذه طبعا شخصية مسرحية هزيلة إذا قورنت بشخص لا يستطيع ان تقول ماذا يمثل بالضبط, هل هو خير أم شرير, أنت نفسك في حيرة, وهو يعيش كالبشر الآخرين يتناقض في كل لحظة مع ما كان يريد أن يعبر عنه قبل لحظات بل يعمل أحيانا خلاف ما كان يعتقد, ويهاجم سلوكا طبيعي يستنتج من كلامه هو ... لماذا لأنه يعيش كالبشر ... ولا يمثل فكرة, وهذا يعني أن شخصيات ديستوفسكي تعيش تناقضات البشر وليست عبارة عن نماذج صنمية لأفكار مسبقة . وهنا الصعوبة الحقيقية في معرفة مأساة هؤلاء الأشخاص الذين يتحملون الآلام من أجل الحياة بالذات .. خلاصة المسرحية ## بعد أن أعطينا فكرة مبسطة عن الشخصية عند ديستوفسكي, نستطيع أن نلخص أحداث المسرحية كما يلي : ( الأب فيدور كرامازوف, وهو سكير شرير يعيش في تناقضات غريبة ولكن الجنس هو مأساته الأولى له ثلاثة أبناء ديمتري من زوجته الأولى, واليوشا و ايفان من زوجته الثانية, ديمتري هو الأبن الاكبر وهو صورة تشبه الأب إلى حد ما, ولكنه يعيش التناقضات أيضا والآلام نتيجة لعيشه مع أبيه وتحمله رذائله, ومأساة ديمتري والده أولا, وحبه ثانيا حبه الموزع بين غروشينكا الغانية التي تراها خيرة أحيانا, وكاتيا الفتاة الجميلة التي عرضت نفسها عليه من أجل انقاذ والدها, والياشا الذي يمثل الطيبة اللامتناهية, لا يخلو من أن يعيش في متناقضات أخرى إذ أنه جزء من العائلة ووالده هو الشر, وهو ابنه, وأخوه ايفان هو الالحاد المجسد وهو العقل الذي يدين كل شيء مخلوق, ويرفض العدالة في العالم ويرد بطاقة الخلق . ايفان يعيش أيضا في تناقض هائل إذ أن تعاليمه التي تتسرب سمردياكوف تكون السبب في قتل الأب إذ أن سمردياكوف وهو أبن غير شرعي للأب يقتل أباه – كل شيء محلل – استنادا لآراء ايفان, وتعبيرا عن حقده على الأب الذي ظل يحتقره طوال حياته .. وتنتهي المسرحية بذهاب ديمتري الى سيبريا متها بقتل والده, وذهاب غروشينكا التي تحبه معه وذذهاب اليوشا أيضا معه لأنه جاء لتنفيذ وصية معلمه الاب بأن طلب منه أن يتحمل الآلام مع الآخرين ويساعدهم على حملها ) التمثيل ### لا شك في أن الممثلين قد قاموا بأداء أدوارهم على نحو جيد بصورة عامة بحيث أن استطاع أكثرهم أن يعطي دوره أو يعطي جزءا من دور في مسرحية لديستوفسكي يعتبر انتصارا كبيرا له .. ونستطيع أن نتناول الممثلين بالتفصيل ... أسعد فضة # سأتحدث عنه في البداية نظرا لأنه المخرج ولأنه أعجبني منذ أن رأيته في مسرحية – فولبوني - , إن أسعد فضة يملك موهبة جسدية وصوتية, وهاتان الموهبتان يندر توافرهما معا, لذا فإن على المسرح القومي الاستفادة من إمكانات أسعد لأقصى الحدود ثم إن له سيطرة حين يدخل إلى المسرح وهذه قضية حساسة تلعب دور كبير ويعرف هذا كل ممثل مسرحي . ## لعب – أسعد فضة – دور ديمتري الأبن الكبير الشرير أبن الأب تماما ولكنه الطيب في نفس الوقت الذي يعطي كاتيا الأموال التي تحتاج إليها دون أن يمسها, وهو الذي ربي في بيت فساد كامل, واستطاع أن يعطي صورة حية عن ديمتري, ونستطيع هنا أن نلاحظ ملاحظتان أولهما أن ألبسة ديمتري لم تكن جيدة, حبذا لو ارتدى معطف فرو مثلا أو غيره وثانيهما أن أسعد كان – يسرع في الحوار – وعلى الأخص في الفصلين الأوليين بحيث لم يعد الجمهور يتابعه ... وهذان شيآن ليسا على أهمية كبيرة . نهاد قلعي ## الأستاذ نهاد قلعي ممثل شهير ومعروف, وقد رأينا له أدوارا عديدة, في المسرح القومي, وهذا الدور الذي قدمه هذه المرة يبدو دورا غريبا عن كل الأدوار الأخرى, دور تمتزج فيه مشكلة السخرية الحادة التي تنبع عن نفس ممزقة بالشر المجسد فيه, لعب دور الأستاذ نهاد بترجيح ناحية الضحك على المأساة, وعلى كل حال ساعدته خبرته الطويلة بالمسرح أن يفرض وجوده ... وإن كانت طبيعة الأدوار الطاغية عليه تنسيه أحيانا المسرحية التي يقدمها – أو تنسي الجمهور أحيانا أن الدور الآن يختلف عن الأدوار السابقة . وعلى كل يبقى الأستاذ نهاد ممثل موهوب جدا .. وله طابعه الخاص . خضر الشعار ### أعتقد أن دور ايفان هو أهم دور في المسرحية وأن التركيز يجب أن يكون عليه, واستطيع أن أرى أن المسرحية لم تقدم ايفان كما يجب أن يقدم, ولا أعني بذلك أن الممثل كان فاشلا, ولكنني أعني أنه كان يحاول أن يمثل دورا من أصعب الادوار في المسرح, دور ديسويفسكي الحقيقي, دور إنسان المستقبل الذي بشر به نيتشه, الإنسان الذي لا يحاكم العالم إلا من خلال العقل, والذي يعيش في تناقض مع العالم لأنه يحاكمه بعقله فقط . وهو لذلك لم يكن إلا صورة مجسدة للتمزق الحاد, التمزق الديستوفسي بأقصى صورة وأشدها عمقا لأن تمزقه يشمل العدالة في العالم كله, إنه كما يروي ديستوفسكي يجمع صورة الأطفال المعذبين ويتساءل لماذا يتحمل الأطفال الآلام دون ذنب, الطفل بريء فلماذا يتألم, إنه يحاول أن يفهم العدالة, من خلال الألم, انهم جميعا يتألمون ولكنه وحده يعاني مشكلة الالم بالذات الألم الذي يربطه مع كل متألم في العالم كله, وهذه صورة للارتباط مع آلام البشر, هي صورة معذبة مقلقة لايفان ولكن التمزق الذي يظهر على ايفان كان يجب أن يكون أكثر قوة وحدة مما بدا .. وهذا يفترض اجراء القليل من التبديلات على فهم شخصية ايفان .. يجب أن لا يضع يديه في جيوبه بشكل لا مبالي, وأن تظهر أحيانا باللامبالاة من مشكلة عائلة لا تهمه كثيرا إلا أنه يعاني مشاكل أكثر حدة وأهمية منها . ويبدو أن شخصية ايفان قد مسخت بالمسرحية قليلا فلم يظهر منها إلا الجانب الوثيق الصلة بالعائلة, واختفت كل جوانبها الأخرى التي توضح تمزقها العام, وأن لامبالاة ايفان بما يحدث وعلى الأخص في البداية لا تعني إلا أنه مرتبط بمشاكل أهم بكثير من نزاع أخيه الأكبر مع والده على بضعة آلاف من الروبلات أو على فتاة .. وقد يكون لهذا الخطأ علاقة كبيرة بعدم امكان أخذ كل ما في رواية ديستوفسكي وتقديمه على المسرح, إذ أن المخرج قد استند على الاقتباس فقط فاغفل جوانب كثيرة من شخصية ايفان وقد كان يمكن أن تزداد صلة الممثل بالدور فيما لو وضحت الجوانب الأخرى من شخصية ايفان .. رفيق السبيعي # لم أر رفيق السبيعي يلعب دورا ويجيد فيه كما رأيته في سميردياكوف, إن رفيق السبيعي لعب دور حياته بالتأكيد, لقد رأيت له أدوار عديدة في مسرحيات مختلفة, وفي هذا الموسم, ولكنني لم أدهش كما دهشت حين رأيته يلعب هذا الدور . في الحقيقة استغربت حين قيل بأن رفيق السبيعي سيلعب هذا الدور, وهو دور من اهم أدوار المسرحية, إن لم يكن أهمها, إذ أن سميردياكوف شخصية أساسية, وخفت أن لا يستطيع أن يعطي الدور لأنني بصورة عامة أعجب بدور سميردياكوف وأراه من خيرة الأدوار التي ابتكرتها علية ديستوفسكي ولعل الدور الذي لعبه في مدرسة الفضائح قد أخافني ولكن مشاهدة المسرحية قلب الفكرة رأسا على عقب إن الاختيار كان موفقا وقد لعب رفيق الدور كأحسن ما يمكن أن يلعبه ممثل في بلدنا . وكان يمثل دور حياته هيلدا زخم ## هيلدا زخم مرت على ادوار كثيرة, ولكنها لم تحلم في يوم من الأيام أن تمثل دور ( عروشنكا ), وحين ظهرت على المسرح كانت تقابل دوما بالضحك لطبيعة الأدوار التي لعبتها , ولعلها حاولت كل جهدها لتعطي دور من أصعب الأدوار, الدور التي لم تستطيع ماريا شل أن تلعبه كما يجب أن يلعب, ولعل مأساة ( غروشنكا ) في هذه النفسية التي يمتزج فيها الشر والخير معا, والتي تلقي الخير في أعماقها حيث يفترض أن لا يوجد إلا الشر, إنها تحب, ولكنها لا تصدق نفسها بأنها تحب لذلك تقع فريسة سهلة, إنها تحاول أن تنتقم من مأساة حياتها الماضية باهانة – كاتيا – ولكنها تكتشف في كل لحظة كم هي مخطئة, إنها جادة ككل أبطال ديستوفسكي وتعيش التناقضات ولكنها مخلصة حتى أبعد حدود الإخلاص وهذا الإخلاص لا يمكن أن ينكر التناقض أن هيلدا قد قدمت أكثر ما يمكن أن تقدمه وهذا شيء جيد بالنسبة لدور مثل هذا الدور . ثناء دبسي ## دور كاتيا من أروع الأدوار التي رسمها ديستوفسكي وأحاطها بهالة من المثالية, ومن التمزق, مثلما كانت غروشنكا من طبيعة شريرة ففتح من أعماقها نبع خير, كانت كاتيا بالنسبة إليه ينبوع حنان لا ينفذ معينه وجملة تضحيات أنها تضحي من أجل والدها, وهي تحاول أن تضحي من أجل ديمتري وتقع في تناقض بين تضحياتها وحبها الحقيقي لايفان وتصل بها المأساة إلى درجة عدم التمييز بين الحب وبين عرفنها بالجميل أو تقديرها لمن أحسن إليها لذلك تسير وهي لا تشعر إلى أين تسير وتص بالتضحيات إلى درجة أن تتناقض مع الخير الذي قصدت بعملها أن تصل إليه, إنها خيرة ولكنها لا تعرف طريق الخير على النحو الواضح فتصل إلى التناقض مع الخير .. إنها ككل أبطال ديستوفسكي تسعى إلى الخير ولكن الشر يتولد في اعماق الحياة فيمنعها من أن تحققه ... وهكذا تعيش التناقض. أما الممثلة وهي ثناء الدبسي فقد تميزت أحيانا ببعض الحيوية التي تخالف ما عرفناه عنها, وهي إن لم تستطع أن تبدل في أداء دورها إلا أنها كانت مقبولة على وجه العموم . سليم صبري # اليوشا الوديع, الذي جاء يتحمل مع آل الكارامازوف الآمهم أكثر آل الكارامازوف تحملا للآلام بصبر عجيب, ونفس مسيحية, ولعبه سليم صبري بشكل لا بأس به, وأن كانت من المناسب أن تزداد لهجته هدوء لينسجم مع نفسية اليوشا الوديع, لأنه على الرغم من هذه الوداعة وهذا الهدوء ينفجر أحيانا لتظهر فيه نفسية الكارامازوف المتناقض, أن لهدوء الطبيعي في نفسه ضروري لتوضيح الثورة التي قد يلجأ إليها حين يفتقد اتزانه . وأخير إن باقي الممثلين أيضا قاموا بجهود لا بأس بها وإن كانت شخصياتهم ثانوية ليست على درجة من الأهمية تستحق أن يكتب عنها . ولابد لنا بعد ذلك من أن نشير إلى نجاح فكرة الرقصة الروسية التي قدمت أحد الفصول والتي تعكس جو حانة, فالفكرة مبتكرة وجيدة .. وإننا أخيرا نشكر الفرقة القومية على هذه المحاولة الجيدة التي تعتبر قفزة إلى الأمام في المسرح في بلدنا ونتمنى أن تتبعها خطوات أخرى كي نرى مسرحنا وقد تطور تطورا ملموسا باتجاه مسرح حقيقي جدي يثقف الجماهير ويوطد دعائم جمهور مثقف يقبل على المسرح من أجل المسرح بالذات !
|