مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


الأخوة كارامازوف

عمل مسرحي ضخم تصدت له " فرقة المسرح القومي " بثقة

ماريا شل دمشق تنتزع البطولة مع رفيق السباعي ونهاد قلعي

بقلم عبدالله الشيتي

إن مجرد تفكير فرقة (المسرح القومي) بتقديم رائعة  (دستويفسكى) جرأة نادرة وشجاعة خارقة .

وإن القيام بهذا العبء الفني الجبار فيه تحد مباشر لشيء أسمه ( المستحيل ) !

وأكثر من هذا, فإني اعترف انني ترددت بادئ ذي بدء, في مشاهدة آثار هذه الجرأة, وذلك التحدي .. ووقفت حيال أسم المخرج الجديد الشاب ( أسعد فضة ) موقف المتشكك الحائر المتسائل :

- كيف يمكن لهذا العنصر الفني ( المستجد ) في أعمال الاخراج المسرحي أن ينجح ولو قليلا في تقديم ( دستويفسكى ) بلحمه ودمه على مسرح صغير, وبإمكانات فنية متواضعة ؟

وظلت علامات الحيرة والتساؤل مرتسمه على وجهي .. قبل أن اتخذ موقعي وسط مئات الاخرين من جمهور دمشق الذين كانوا وهم في سبيلهم إلى مقر المسرح, يقدمون رجلا, ويؤخرون أخرى, مخافة أن يصدموا ب(الخيبة) و (الفشل) !

وهمس في أذني زميل أديب :

- هل تعتقد أن بإمكاننا أن نشاهد الآن نموذجا مقبولا ل (ماريا شل ) و (ولى جيكوب) و (يول برينر ) الذين تقاسموا بطولة فيلم ( الأخوة كارامازوف) ؟

قلت من قبيل (التفاؤل) وحسم الجدال :

- ربما .. أعتقد ذلك ! لنر الآن .. لننتظر ( النهاية ) !

وارتفعت الستارة عن الفصل الأول .. ووسط لهفة وصول الحضور, وفي مقدمتهم فيض من المشتغلين بالقلم والفن .. والناس !

جو القصة !

التناقض والحيرة والازدواج والآلام والشخصيات القلقة الغريبة التي ابتكرتها مخيلة ( دستويفسكي) هي السمات الأكثر بروزا في العقلية والنفسية ( الكارامازوفية) .. وهي الصفات الأكثر لصوقا بواقع الشخوص المتصارعين على خشبة المسرح وخشبة الحياة !

إن ( الأخوة كارامازوف ) إذن, زاخرة بالعقد, والتحليل النفسي, والمعانى غير المباشرة, والصور المتلاحمة المتلاحقة .. وكلها صور حية, كانت تصرخ في آذاننا أو تصرخ, وترقص أمام أعيننا وتتلوى!

قد لا يكون من المستحسن تلخيص أو تكثيف (الأخوة كارامازوف ) في السطور التالية, رغبة منا, في أن نفسح المجال أمام القارئ أن يقرأ رائعة  ( دستويفسكي ) مباشرة ويعي واقعها و خفاياها ويعيش متعتها واسلوبها, لأن التشخيص كثيرا ما يفسد الأثر, وكثيرا ما يكون فيه انتقاص وتشويه للنص, ولاسيما في مثل هذا العمل الروائي الضخم الذي تتجاوز ترجمته الحقيقية الامنة مئات الصفحات .

( فيدور كرامازوف) سكير عربيد مستهتر, وشرير متصاب, حياتة مجموعة تناقضات غريبة, والجنس والتهافت على النساء, ولو كن محبوبات ابنائه , مأساته الأولى وشغله الشاغل .

ولهذا العجوز المتصابي, صاحب العقلية المروضة بالكثير من العقد والمتناقضات والأهواء, وصاحب الشخصية المحمومة المهزوزة ثلاثة ابناء هم : ديمتري من زوجته الأولى و( اليوشا ) و ( ايفان ), من زوجته الثانية . و(ديمتري) الابن الأكبر . و ( سمردياكوف ) الأبن غير الشرعي, المخبول المعقد, ابن الشحاذة المنبوذة التي اعتدى عليها الأب الشبق في لحظة ظمأ جنسي .

( ديمتري ) أيضا له بعض ما لأبيه من الصفات المستهجنة, أولها مشكلة النساء . وهو يحب في الوقت نفسه اثنتين مختلفتين تماما .

(غروشينكا ) الغانية اللعوب . و (كاتيا )  الفتاة الجميلة التي عرضت على ديمتري نفسها وحبها من أجل انقاذ والدها .. ويبرز الصراع أيضا بين الأب وديمتري من اجل الحظوة ب ( غروشينكا ) اللعوب التي تؤثر ديمتري اخيرا لطيبته بعد أن يتهم بقتل أبيه ويسجن في ( سيبيريا ) فتلحق به (غروشينكا ) .

ويعود ( اليوشا ) الراهب الصغير المبتدئ إلى الجو ( الكارامازوفي ) لينفذ وصية معلمه الأب الكبير حين طلب منه في الدير أن يتحمل الآلام مع الأخرين ويساعدهم على حملها وتجاوزها .. ويكون (ايفان) العقل المدبر والمخطط والالحاد المجسد, قد أشرك ( سمردياكوف ) أخاه المخبول المشوه غير الشرعي في قتل الأب الذي ظل يحتقره حتى النهاية .

ديمتري .. وأسعد !

المخرج أسع فضة هو نفسه أحد أبطال المسرحية, وقد لعب دور ( ديمتري ) فكانت مهمته شاقة, الإخراج والتمثيل, ولكنه بدا كمخرج أنجح منه كممثل . ربما لأنه قصر مطلق عنايته وخبرته على انجاح أدوار سواه من الممثلين وربما لأنه كان يطل من خلال كل بطل من أبطال المسرحية  .. ويقف وراء كل حركة من حركاته, وكل كلمة يفوه بها .. كان واضحا ان أسعد لم يبخل بجهد ولا بطاقة . ولقد رأيته يجري عدة تغيرات وتبدلات في بعض المواقف والحركات المسرحية يوما بعد يوم, بحيث أمكن له أن يستكمل أسباب نجاحها إلى حد بعيد, وأنوه أيضا بتوفيقه التام في اسناد العديد من الأدوار إلى الشخوص التي رأيناها تعيش بيننا, وتتحرك أمامنا .. وتنقلنا بصدق وحرارة إلى واقعهم ومشكلاتهم . أجل وفق أسعد في رسم الطابع المميز تقريبا . وأصاب حظا لا بأس به من التوفيق, في قيامه هو شخصيا بدور ديمتري وقولا بعض الهنات الطفية, والأخطاء غير الملحوظة تماما والتي ربما سقطت عفوا أو سهوا أو إهمالا .. كعدم تواؤم الحوار مع الحركة, وكإمعانه هو نفسه في سرعة الكلام بحيث كان في معظمه يبدو جملة متصلة مستمرة, وبنفس واحد وعلى وتيرة واحدة من التوتر والهياج  و ارتفاع الصوت ! فضلا عن ان بعض أعمال الإخراج غلبت عليها في بعض المواقف الرئيسية مسحة من العجلة, كما في الفصلين الأخيرين . ومسحة من بطء واملال كما في المدخل خلال مستهل الفصل الأول الذي عاد فكثفه لأبعاد الإسهاب المخل عن روح التشويق, وعنصر المفاجئة والعقدة القصصية, ولم يوفق المخرج كذلك في إعطائنا شخصية ( ايفان ) الملحد الداهية .. أو إن ( خضر الشعار ) هو الذي لم يوفق تماما . كما لم يكن ثمة ما يبرر تقلص وجه ( ايفان ) واحتقان عضلاته طوال الدور كأنه وجه مطاطي فقد التأثير, ولم يحسن التعبير أو الانفعال  الداخلي المقبول .. أو المعقول . كان دائما وفي معظم المواقف يضرب على وتيرة واحدة من الافتعال, وليس الانفعال !

وهذا اللباس الذي ارتداه ( ديمتري ) .. هذا المعطف كأنه من مخلفات ( سوق العتيق ) هو يليق بدور ديمتري, الرجل المغامر الجريء, والشخصية البطلة المتمكنة المتميزة عما سواها من الشخصيات البارزة الواثقة ؟ .. كلمة أخيرة لأسعد : لقد كنت موهوبا حقا ولا أقول ( محظوظا ) حين أعطيت دمشق نتاج ( الأخوة كارامازوف ) .. فتحديت . وانتصرت رغم كل شيء !

رفيق سبيعي : في أعظم أدواره

ما رأيت ( رفيق ) قط مثلما رأيته ينتصر على نفسه, وعلى غيره, في دور ( سمردياكوف ) . التعبير المثير . الحركة الذكية . اللهجة المتوافقة . العقدة النفسية . والعقدة الجسدية . لقد ملأ رفيق المسرح بملامح وظلال ( سمردياكوف ) فشخصت إليه الأبصار و تشوقته العيون باستمرار . لم أصدق أن هذا نفسه ( أبو صياح ) صاحب الأغنية الشعبية الشهيرة ( يا ولد الفلك شال ) . لقد عرفت رفيق مبدعا في المسرحية العالمية  ( حرامي غصب عنه ) من سنوات طويلة, لكنني لم أكن أنتظر أن أعرفه وأراه بطلا عملاقا مثقفا ثقافة فنية صقيلة, وملموسة كما في ( الأخوة كارامازوف ) . جميع من راه وشد على يده مهنئا اجمعوا أنه كان ( بحكم خطورة ومسؤولية دوره ) بطل المسرحية بلا منازع .. وظل هو يبتسم .. ويشكر .. ويتواضع . علقوا على صدر رفيق وساما لأنه يستحقه عن جدارة . ومثل هذا الوسام للمخرج ولنهاد قلعي . ثالوث النجاح, والعمود الفقري للمسرحية .

نهاد قلعي : بدور ( فيودور )

لو كان نهاد في ( هوليود ) يوم تصوير فلم ( الأخوة كارامازوف ) لكان اختيار مخرج الفلم قد وقع عليه فعلا, لم يصدق أحد نهاد قلعي قد تألق عالميا, وهو بعد هنا في .. دمشق يلعب الدور على مسرحية صغيرة .. ولم أكد أصدق ان نهاد ( سيد مسرح ) بهذا الشكل !

أما أنا فأقرر حقيقية : وهي أن نهاد قلعي ورفيق السبيعي كانا وحدهما المرنين المنسجمين مع دورهما لكنهما خلقا لهما قيل أن يخلقا .. إن الاحتراف له فضله ومردوده في نجاح هذين الفنانين, ومثلهما من النساء : هيلدا و ثناء .

# كان على رفيق أن لا يزيد في انحناء كتفه المفتعل .

# وكان على نهاد أن يفرط أكثر في الشراب ( والنعنعة ) . و ( العربدة ) حسبما أراد دستويفسكي في روايته !

# كان على المخرج أسعد فضة أن لا يظهر ( سمردياكوف ) حين الشروع بالقتل .. لقد ضرب صلب العقدة وتوتر المسرحية ومفاجآتها المقبلة .. ولو أكتفى بأطلاق صيحة من وراء الستارة لكان أجدى !

خضر الشعار

قام بدور (ايفان) أخطر دور في المسرحية . ولكنه ظل في كثير من المواقف يراوح مكانه دون جدوى. لقد كان يؤدي الدور من خارج تماما . في حين أن الدور عميق ودقيق لا يؤدى إلا من الداخل . اعترف أنه بذل مجهود طيبا كي يكون مقبولا على الأقل .. لكن فاتته فرصة النجاح هذه المرة !

هيلدا زخم بدور ( جروشنيكا )

لا أكون مغاليا اذا قلت أنها ضاهت ماريا شل في قيامها في هذا الدور أو قاربتها . بل ان ماريا شل نفسها اعترفت في حديث صحفي لها ذات يوم . بأنها ( توهمت ) من الدور, وخافته كثيرا وأنها لا تصدق اذا كانت قد أدته بنجاح .. هيلدا زخم خلقت لتكون ممثلة مسرحية  و .. سينمائية . تلك موهبة من الله لا حيلة لها فيها !

ثناء دبسي بدور ( كاترين )

قدر لها أن تنافس ( هيلدا زخم ) في انتزاع البطولة النسوية في المسرحية . كانت نفسيتها الطيبة الهادئة ملائمة للدور المثالي الحائر الذي رسمه ( دستويفسكي ) فكما أن هيلدا نجحت في تأدية دور الغانية اللعوب و الداهية الخبيثة  و .. الوفية أخيرا .. كذلك فقد نجحت ثناء في دور الفتاة الوديعة القلقة المتحسبة المترددة والمتناقضة أحيانا, ككل شخوص المسرحية التي كانت طوال الوقت تعيش في بحران من الآلام والعذابات النفسية والإضرابات الذهنية والتمزق والقلق والبحث عن الحقيقة .. عن الله ! وعن .. الإنسان !

سليم صبري بدور ( اليوشا )

دوره دور الفتى الغض الهادئ النظرات . الوادع المحب للخير والإنسانية والذي يهرب من متناقضات وجحيم الأسلوب ( الكارامازوفي ) إلى دير هادئ صغير وادع مثله .. لقد أثر أخيرا أن يتحمل بنفس مسيحية خالصة آلام الأخرين من أخوته .. وأدرك أن الآلام العظيمة تصنع النفوس العظيمة .. لقد كان دور سليم من أنجح ادواره هذا العام أيضا بيد أن مزيدا من المرونة مع الدور كان يلزمه ..

وانوه _ هنا _بأدوار ( جريجوري ) وقد لعبه بشار القاضي (وموسيا لوفيتش) ولعبه طلحة حمدي و ( اندريه ) ولعبه محمود جركس و ( فروبلسكي ) ولعبه سليم حانا وكان كعادته فكها مستظرفا أضحك الجمهور بعفوية .. ثم أنور المرابط بدور ( تريفون ) وابراهيم كردية  بدور ( رئيس البوليس ) ورضوان الساطي بدور الأب ( زوسيما ) وكان موفقا حقا في اللهجة والأداء .. والحركة المسرحية .. إن البطولة لم تكن فردية , ولكنها جماعية