عرس الدم على مسرح القباني قدم المسرح القومي في دمشق عبر موسمه الحالي المسرحية الشعرية ( عرس الدم ) لشاعر اسبانيا فردريكا غارسيالوركا . اخرجها للمسرح السوري أسعد فضة ... دمشق – من نزار مؤيد العظم . خلال الأسابيع الأخيرة الخمسة , قدم المسرح القومي بدمشق عير موسمه الحالي مسرحية (عرس الدم ), رائعة شاعر اسبانيا غارسيا لوركا التي تحمل في الأصل الإسباني اسم ( الزفاف الدامي ) فضربت في نجاحها رقما قياسيا, لم يشهد له تاريخ هذا المسرح مثيلا, طيلة السنوات الست, وكان هذا النجاح برهانا جديدا يجابه المتشككين بجدوى مسرحنا وامكاناته, ويجعلهم يؤمنون بصدق . أن هذا المسرح قد شب عن الطوق, وقطع خطوات طموحه رحبة للوصول إلى مصاف المسارح الكبيرة العالمية التي تتصدى لموضوعات مجهدة صعبة كموضوع عرس الدم . لا أزعم أن موضوعا كالزفاف الدموي , ولشاعر كبير كلوركا عمل سهل التنفيذ, داني القطوف, بل أكاد اجزم, أن اختيار الفنان أسعد فضة لهذه المسرحية بالذات يعتبر تحديا جريئا, وتجاوزا واعيا مسؤولا لكل العقبات والمصاعب التي ما برحت تجابه نمو المسرح السوري, وتكبل اندفاعه . وللحق, أن أسعد فضة مخرج المسرحية , ومعظم العناصر التمثيلية والفنية التي ساهمت بتنفيذ هذه المسرحية القصيدة , قد استحقوا بجدارة التقدير والإعجاب, والتصفيق الحاد , خلال الأسابيع الخمسة التي شهدت عرض المسرحية بإقبال منقطع النظير, لإحرازهم هذا النصر الذي استطاع أن يجسد لنا قيما فنية رفيعة, على مسرح صغير في دمشق هو مسرح القباني , الذي يتضاءل كثيرا دون تطلعاتنا المسرحية, والذي انشأ في الأصل ليكون مسرحا للعرائس . مسرحية عرس الدم , تبرز لنا الصراع بشتى صوره وأبعاده .. فهناك صراع الإنسان مع نفسه, وصراعه مع التقاليد, وصراعه مع الحياة, والموت, والخنجر الذي لا يخطئ مطعنه, الصراع من اجل الأرض ومعها, تلك التي تتطلب من يجند نفسه لقهر أشواكها وعوامل الجفاف والقحط فيها ... ولإخصابها واستنباتها, والصراع بين الحقد والمحبة, بين الخير والشر, بين الجمال والقبح .. كل ذلك في قالب مأساوي من الفه إلى يائه, محلي في معطياته, أصيل في عناصره وعواطفه وانفعالاته .. مشرق في حواره وأفكاره ... مما هو غير مستغرب من لوركا, الشعر الذي خالف جمهور شعراء اسبانيا , في مطلع القرن العشرين, اولئك الذين كفرو بماضي امتهم وتراثها, واندفعوا لمارات التيارات الأوربية, فيما أصر لوركا على التشبث بإسبانية انتاجه, والتنقيب في ماضي شعبه , والغوص في محيط قوالبه وثرواته الفنية الشعبية ومعطيات الحياة والأرض والبيئة الإسبانية . فاذا نحن نقرأ له أو نستمع, ونرى أبطاله, نتواجد مع عواطفهم وانفعالاتهم, ونتذوق حلاوة الصدق في المعاناة, ونشم رائحة التربة الإسبانية, وأريج رياحينها, وعبق صباياها, ونحس دفق الحرارة في قلوب ابنائها وموسيقاهم ورقصاتهم وآلامهم وأفراحهم, كما تصدم انوفنا انتان الحقد والدم والموت, وتدوي في آذاننا نداءات الثأر وصرخات الكراهية والحقد, وعويل الثكالى والمفجوعات الموتورات .. في ايقاعات تراجيدية معجزة, زادت من روعتها بعض الحان واغنيات شعبية اسبانية, ضمنها لوركا مسرحيته هذه . القصة في الزفاف الدامي هي قصة امرأة فجعت بزوجها, قبل أن تنعم بدفء محبته طويلا, ثم فجعت بابنها .. قضيا قتلا , في دوامة صراع دام قديم بين اسرتين اسبانيتين ريفيتين, بقي لها ولد واحد, كان يحب فتاة تحوم حولها بعض الشبهات, بسبب علاقة غرامية لم تثمر زواجا كانت بينها وبين شاب من الأسرة التي بطشت بالزواج والولد . وكان الشاب يلح على أمه لتقبل بها عروسا له, حتى نزلت الأم عند رغبته غير مرتاحة, وذهبت معه لتطلب يدها من ابيها, في جو عابس مكفهر يزخر بذكريات الأم وأحزانها العميقة . ويقبل الأب , ويتفق الطرفان على موعد العرس, وتعبر الأم عن رغبتها في أن تكون الفتاة خصبة تنتج لوحيدها البنين والبنات, ويصل خبر الخطبة للعاشق القديم المتزوج من امرأة أخرى يكرهها, فيجن جنونه, ويظهر ليلة العرس, في غرفة العروس, فما أن تراه حتى يتأرث في صدرها صراع عنيف بين عاطفتها القديمة نحوه, ورغبتها في أن ترضي كبريائها وتتزوج من خطيبها الجديد الذي يحبها . وأخيرا, تنتصر عاطفتها على عقلها وكبريائها, فتفر مع العاشق بعد الزفاف, وحين يدخل العريس لغرفتها لا يجدها, فيعلم أمه, باذلا جهده لتأويل غيبتها عن غرفتها تأويلا خيرا, لكن الأم تدرك اللعبة, وتقدر أنها فرت مع العشيق, فتتفجر أحقادها الكامنة دفعة واحدة, وتثور ثائرتها على الرجل الذي خطف زوجة ابنها ليلة عرسه, فتعلنها غضبة تنزيل بها جميع الأستار التي جهدت وضعها وتغليف سلوكها بها, وتطلب من شبان أسرتها جميعا, أن يغسلوا العار بالدم, فيذهبون أثر الهاربين, ويجوسون الغابات عبر ليلة مقمرة للبحث عنهما, ويعثرون عليها, فتقع معركة يموت فيها العريس والعاشق .. وتنتهي المسرحية بعبارات تحاول الأم التي فقدت كل شيء عزيز لديها أن تفلسف بها آلامها وتعاستها . إن روعة القصة تبدو في العرض والحوار والتوترات العاطفية التي تسود أبطال المسرحية , وفي الجو الفذ الذي يرين على مجرياتها, وفي أبرز مأساة الجال الذين اريقت دماؤهم, فكانت غذاء لطحالب الحقد والثأر النامية على جسد الحياة, في أرض قست النفوس عليها, واحتدت العواطف, وفقد كل شيء معناه الجميل, فاذا بالقمر الذي ما برح صنوا للجمال والرومانسية يغدو رمادا كريها وأداة للقتل, وبيلا لتحقيق الجريمة وإراقة الدماء, وغذا بالأرض التي يفترض أن تسقي بماء الحياة لتنبجس خيراتها عطاء للناس, تتحول عند أبطال عرس الدم إلى نشافة ظمآى للدماء .. وحتى الموسيقى المرحة الراقصة, تتحول إلى ألحان جنائزية تشيع بإيقاعها اولئك الذين قتلوا في ليلة يفترض أنها ليلة عرس . لعبت ثناء دبسي دور الأم, فسجلت كعادتها نجاحا رائعا, وجعلتنا نلاحق انفعالاتها بأنفاس مبهورة, وثناء حن تمثل, تمثل بصدق وإخلاص وبكل جوارحها وأعصابها, وحين تنبثق الدموع من عينيها, نحس أننا أمام دموع حقيقة ملتاعة لأم مفجوعة وزوجة ثكلى, في أعماقها صرخة أبدية, تريد أن تنطلق, وفي كيانها حزن تنبع عبراته من جذور وجودها المأساوي . وقام أسعد فضة إلى جانب إخراجه للمسرحية بدور ليونارد, العاشق المتزوج الذي خطف الفتاة ليلة عرسها, وقضى شهيد غرامه وأحقاد الماضي, فكان أسعد في دوره مجيدا متفوقا واعيا يصيب كل حركة وكل كلمة في قالبها المناسب . ولعبت مها صالح دور الفتاة المخطوبة, فسجلت تطورا ملحوظا في مسيرتها المسرحية, وجسدت بإخلاص ذلك الصراع المحتدم في نفس المخطوبة العاشقة . وأدى أحمد عداس دور السائلة العجوز التي كانت ترمز للموت, فأثبت أنه ممثل كبير, واستطاع أن يؤدي رمزية الدور بنجاح, وإن يرينا الجريمة التي وقعت في النهاية من خلال حركاته , وأقواله , بدلا من أن نراها مجسدة على المسرح, كما استطاع أن يثير فينا قشعريرة الخشعة والرهبة من الموت . وقامت هيلدا زاخم بدور امرأة ليونارد, فأبرزت بنجاح دور الزوجة التي تعلم أنها محرومة من حب زوجها, والتي كرست وجودها لتربية بذرته, وكانت في أدائها للأغنية موفقة لحد بعيد . أما لينا باتع فقد لعبت دور حماة ليونارد, فكانت موفقة إلى حد ما, وكذلك وقفت هالة شوكت في دور الخادم والعانس التي تذوب توقا لساعدي رجل, وكانت في حركاتها عاملا انتزاع البسمات من خلال الأحزان . ولعب سليم صبري دور الولد الخاطب, وسليم, مثل ثناء, له طابعه المميز على خشبة المسرح, يظل معه مهما تنوعت أدواره, وقد نجح في أدائه للدور . ولهب يوسف حنا دور القمر وهو دور رمزي ليس سهلا, وتمكن بموهبته من إبراز المغزى الذي رسم للدور وسجل توفيقا طيبا . أما بقية عناصر التمثيل فثمة من يحتاج منها إلى مران مجهد ليغدو قادرا على مجابهة الجمهور ولعب دوره بوعي ومسؤولية واخلاص . بقيت كلمة حول الفنيين الذين ساهموا بنجاح المسرحية, وفي مقدمتهم الفنان خزيمة علواني مهندس الديكور ومصممه ومصمم أزياء الشخوص, وقد عودنا خزيمة دائما على تقديم تصاميم الديكور بقالب بسيط مختزل اخاذ معبر, يتغلب على ضيق المسرح وصغر مداخله بحيل فنية ذات ذوق جيد, وفي ديكورات عرس الدم القليلة العدد, أثبت خزيمة أنه فنان يملك الخصوبة والأصالة اللتين تبشران بعطاءات أسمى وأرفع, وحسبنا أن نقول, أن قطع الديكور, كانت رغم قلتها, تبدو في تغيير مواقعها وتبديلها عبر المشاهد السبعة للمسرحية جديدة مبتكرة غير مملة . كما أن اختيار الموسيقى المرافقة وتنفيذها جاءا منسجمين كل الانسجام مع مجريات الأحداث والمواقف والانفعالات والعواطف . وكذلك فقد وفق ( الماكيير ) إلى حد بعيد في عمل مكياج الممثلين, وأخص بالذكر مكياج أحمد عداس في دور السائلة التي ترمز للموت .
|