مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


الإيقاع التراجيدي في مسرح لوركا

تقديم أسعد فضة

فيد ريمو جارتيا لوركا هو شاعر اسبانيا الأول في القرن العشرين ربيب الجمال وأبن الأرض الاندلسية التي احتضنته بين ذراعيها بنحو أذكى في نفسه لكل نبتة تتغذى من هذه الأرض وغدير يجري في ربوعها وضوء ينير خديها, ونسمة تداعب خمائلها فحفظ تراثها الشعبي الدال على شخصيتها الحقيقة بشعره العذب وجمعه للألحان الشعبية وخلقه لها أحيانا لأنه كان على دراية واسعة بالموسيقى إلى جانب التصوير والشعر .

وحبه لبلاده جعله يهتم كثيرا بالألحان الشعبية الأندلسية وينظم الأشعار التي كانت تتردد على كل لسان بالحان من خلقه وابداعه لم يسمع أحد بها من قبل ولا أريد ان اطيل التعريف بهذا الشاعر العظيم وعبقريته الفريدة ولا التحدث عن روعة عالمه الشعري الساحر بل سأكتفي بحديثي أن أقطف زهرة واحدة من روضه الفنان .

وسيكون حديثنا هذا عن مسرح لوركا أو بالتحديد عن الايقاع التراجيدي في مسرح لوركا وعند عبارة الايقاع  التراجيدي اجدني مضطراً إلى الوقوف لحظة عند مقتل شاعرنا العظيم لان في ذلك قمة التراجيديا .

ففي عام 1936 اندلعت الحرب الأهلية في اسبانيا واشتد الخلاف بين الملكيين الكاثوليك والجمهوريين الثوريين وطبعاً كان لوركا الشاعر الذي تغنى كثيراً بالحرية والعدل والمساواة من صف الجمهوريين الثوريين , وعندما استلم الملكيون الحكم لم يسقطوا من حسابهم لوركا وعم يعرفون تمام المعرفة مقدار تأثيره على الناس بشعره المتحرري التقدمي .

وفي التاسع عشر من شهر آب وقعت الجريمة في غرناطة وقتل لوركا على يد فرقة الكتائب الرهيبة التي الفها الملكيون لاثارة الرعب في الناس .

وسكتت القيثارة التي غنت أشجى الألحان وأعذبها في الوقت الذي يجب ان تغنى سكتت مع الصباح مع شدو العصافير والندى والنسيم .

وقد صور انطونيو ماخادو أستاذ لوركا وصديقه مقتله بهذا الأبيات لقد رأوه وهو يسير بين البنادق فوق الشارع الطويل

ويلوح فوق الجرد البارد

المشعشع بالنجوم جود الصباح وقد قتلوا فيديريكو

في الساعة التي يطل فيها الضوء ولم تكن مفرزة الجلادين

لتجرؤ على أن تتطلع اليه وجهاً لوجه لقد أغمضوا أعينهم

وصلوا : أن الرب نفسه ان ينقذك لقد سقط فيديريكو صريعاً

على جبينه الدم وفي احشائه الرصاص

لقد وقعت جريمة في غرناطة

هل تعلمون ؟ مسكينة غرناطة, غرناطة

وهكذا عانق لوركا الأرض التي  يحبها عناقا أبديا ودفن حيث أوصى قبل موته

عندما أموت

أدفنوني مع قيثارتي

تحت الرمال

عندما أموت

بين البرتقال والنعنع

أدفنوني إذا شئتم

في مهب الريح

عندما أموت

لم يشتهر لوركا كشاعر فقط, بل أشتهر ككاتب مسرحي أصيل عبر عن النفس الإسبانية بكل حرارتها وعنفها وصخبها فجاءت مسرحيته مرتبطة بالأرض الاسبانية ارتباطا وثيقا وأصيلا فقدم لنا مسرحيته الخالدة : بيت برناردا انبا ومسرحية يرما . وعروس الدم ولفة الأزهار .

وبيت برناردا البا من أشهر مسرحياته و أقواها والذي يميزها هو تخلي لوركا عن القوالب الشعرية والغنائية  التي كان يضعها في مسرحياته الأخرى حتى لنحسب أن المسرحية ما هي إلا قالب يصيب فيه لوركا نبعه الشعري الغزير.

وبيت برناردا البا هذا أو بيت الحسرات يضم ست نساء ليس بينهن رجل واحد .

وهو من البيوت العريقة تبدأ المسرحية والبيت في حالة حداد على رب الأسرة الذي أدركته يد المنون والنسوة هم برناردوا البا الأم – 60 – سنة وبناتها أنجو ستايس – 39 – سنة ماجدلينا – 30 – سنة اميليا – 27- سنة مارتيريو – 24 – سنة اديلا – 20 – سنة وأم برناردوا ألبا وقد بلغت الثمانين ثم الخادمة ومدة الحداد التي فرضتها الأم برناردوا هي ثماني سنوات ورغم التقيد الصارم المفروض من قبل الأم على بناتها أضيف إليه قيد الحداد لمدة ثماني سنوات فماذا يصنع مثل هذا القيد بالعاطفة المرتكز الذي ينهي عليه لوركا شخصياته ماذا يصيب العاطفة الإنسانية التي تحرك النفس البشرية في مثل هذا الجو .

وهكذا وضع لوركا هذه العواطف الإنسانية المصطرعة  في اتون وأضرم فيه النار فكانت مسرحيته الخالدة هذه . فهناك الشخصية المحورية في المسرحية التي تحرك البنات الخمس وهي لا تتحرك بل لا تظهر على المسرح إطلاقا وهي شخصية الشاب بيبي الرومانو 25 سنة فرغم قوة وسلطة الأم برناردوا البا والقيود التي يقيد بها بناتها استطاع بيبي ارومانو أن يعيش في خيال كل واحدة منهن ويسطو على أنجو ستايس ويضاجع اديلا في الحظيرة فالأم في المسرحية هي الفعل الذي تقع وطأته على البنات الخمس فهي التقاليد والعادات والعرف والمحافظة العقلية الجامدة والبنات هن رد الفعل الذي يصنع المأساة ويخلق فيها ذلك الإيقاع التراجيدي العجيب .

أما أم برناردوا ألبا مارياخو سيفا فما هي إلا الصورة المخبئة في نفسية كل فتاة من بنات برناردوا والتعبير الصادق عن عواء الغريزة الكامن في نفوسهن, فهي تحلم دائما بأن تتزوج فتى جميلا خارجا من ساحل البحر وبما أنها لا تستطيع الوصول إلى هذا الشاب فهي تكتفي بمرافقة شاة صغيرة تسقط عليها حلمها الذي لا يمكن أن يتحقق .

فهي تقول لمارتيريو عندما تسخر منها على سلوكها هذا : خير لك أن يكون لك شاة من ألا يكون لك شيء ما .

ومسرحية بيت برناردوا ألبا واقعية وصادقة في واقعيتها, فشخصية الخادمة لابونيثا ما هي إلا لسان البيئة الذي يحلو له أن يلوك الإشاعات والأكاذيب وينشرها هنا وهناك , نعود إلى أحداث الرواية , يبتدئ لسان العواطف المكبوتة بالتحرك فتثور اديلا الصغرى بنات برناردا وتعلن للجميع أن جسدها هو ملكها وستفعل به ما تشاء, فعندما يأتي بيبي الرومانو خطيب أختها أنجو ستياس تهبه اديلا جسدها وسرعان ما يفتضح أمرها فتسرع الأم لتقتل الشاب بيبي الرومانو ويصور حقد العاطفة لأختها مارتيرو أن تقل إليها أن عشيقها بيبي الرومانو قد مات فما يكون من اديلا إلا أن تسرع إلى غرفتها وتشنق نفسها وترجع الأم لترى هذا المشهد, ولا يؤثر فيها مقتل ابنتها أكثر ما يؤثر فيها انتشار الفضيحة والتأثير على سمعتها في تردد بجنون : احملوها إلى غرفتها العذارى – ولا يقولن أحد منكم شيئا – ابنتي ماتت عذراء . وابلغوا النبأ حتى تدق أجراس الكنيسة في الفجر – معلنة أن فتاة بكراء اختارها الله إلى جواره – إن ابنة برناردا ألبا الصغرى قد ماتت عذراء . عذراء اسمعتن ( وتنتهي المسرحية بهذا الإيقاع التراجيدي الحزين الذي يصل بقوته إلى مستوى التراجيديا اليونانية ) من الملاحظ ( أن دور لوركا قد اقتصر في مسرحيته هذه على الشخصية النسائية ) وابعد الرجل ووضعه خارج المسرحية – بالرغم إنه المحور الأساسي الذي يحرك الحوادث وهذا يثير التساؤل .

لماذا لم يشارك لوركا الرجل في حوادث مسرحيته ويظهر على المسرح ؟

لو نظرنا إلى برنارد ألبا وبناتها لوجدنا شخصيات واقعية مفرقة في واقعيتهن وفرديتهن . وهذا ما تؤكده أحداث المسرحية . أما الشاب بيبي لرومانو فهو الرمز الذي أراد لوركا أن يرمز به لعالم الرجال – للنور – الذي ينتشر ضوئه خارج البيت – وتشخص إليه أعين بنات برنارد – وقد أكد لوركا قيمة هذا الرمز بوضعه الحصان في البيت – بضجيجه وصهيله وقرعه أرض الأسطبل بحوافره من وقت لآخر – ولقاء هذه الضجة مع صدى العواطف المكبوتة عند البنات برناردا – وقد ربط لوركا برمزية جميلة بين الحصان الذي يدل على الغريزة الحيوانية – الكامنة في النفس البشرية وبين بيبي الرومانو – إذ كل منهما يذهب طليقا من قيوده فبرناردا تأمر بفك قيود الحصان وتركه طليقا – وهذا ما يحصل للشاب بيبي الرومانو – فهو ينطلق بين الحقول – ينشد الأناشيد الإسبانية دون أن يقيم وزنا للمأساة التي خلفها في بيت برناردا ألبا .

وهكذا جاءت مسرحية برناردا ألبا بالرغم من واقعيتها تجسيد حي لعواطف ونزعات أبت أن تكون رهينة الحبس – وتخضع للقوانين المحددة – فاصطدمت هذه العواطف الجامحة – التي تريد الإنطلاق خارج سياج الواقع – بحدود الواقع – فكانت النهاية السيئة والموت – الموت – الذي يهمس به لوركا في كل أعماله وكأنه إحدى مقومات الحياة - .

أما في مسرحية يرما – فهو يصور لنا مأساة يرما – هذه الإنسانية التي تثير الشفقة والحنان في كل نفس – الإنسانة التي طلبت الأولاد من زوجها ولكنه لم يستطع أن يمنحها ما تريد وبدت غريزة الأمومة تتمرد داخلها و تطالبها بإنجاب الأطفال – ولكن لا حيلة لهال في ذلك - -وتزداد ثورة العطفة شدة وعنفا حتى يصل الأمر بيرما لأن تقتل زوجها .

ولوركا هنا يعطينا – القيمة المعنوية للإخصاب – وقد أوضح هذه القيمة وضع لوركا الشرف كطرف آخر للموضوع – فتمسك يرما بالشرف هو الذي أذكى الحوادث وساعد في تطورها .

فيرما تريد الأطفال – وزوجها لا يستطيع إخصابها لكنها لا تفكر أبدا بخيانته فهي تقول : من أجل ابني كنت أسلم نفسي لزوجي وأنا أستمر في ذلك لأرى إذا كان سيجيء ولا افعل ذلك أبدا من أجل لذتي . وتجمح بها العاطفة وتصو لها أن تنام مع شخص آخر لتنجب . لكن الشرف يقف أمام عينيها كامارد الجبار .

فهي تقول للوثنية العجوز التي تعرض عليها الخيانة :

يرما : وأين تضعين شرفي ؟ ليس في مقدور اناء أن يصعد في الجبل , ولا بوسع البدر أن يطلع في وسط النهار . – أذهبي – إن الطريق الذي سلكته – سأتابع فيه السير حتى النهاية - .

كما تصرخ في وجه زوجها عندا يتهمها بالخيانة بقولها : ( تظن بأنك وأهلك بأنكم الوحيدون الذين يحافظون على الشرف ولا تعلمون أن قومي لم يكن لديهم شيء يخفونه ضعني في ميدان وابصق علي . افعل بي ما يحلو لك فأنا زوجتك . ولكن حذاري أن تلصق بصدري أسم رجل آخر .)

وتتمسك يرما بالشرف رغم حبها للأطفال ورغم عدم قدرة زوجها على اخصابها فهي تشكو لجارتها هذا الفراغ الذي تشعر به يملأ عليها حياتها .

( وكيف لا اشكو حينما أراك أنت والنساء الأخريات محملة بالأزاهير يبنما أظل انا دون نفع بين كل هذه الجمالات ) .

إن المرأة التي لا أولاد لها في الريف هي دون نفع ككافة الأشواك إنني أشعر بنفسي مهانة , مهانة ومنحدرة إلى درك اسفل من الأرض عندما أرى القمح ينبت والينابيع لا تكف عن بذل الماء والمواشي تضع مئات الحملان, إن كل الريف يدلني واقفا على موالده وعلى صغاره الطريئة العود المهمومة بالرقاد, بينما أحس بضربات مطارق في الموضع  الذي يجب أن تقرصني فيه شفتا طفلي .