ذكريات لا تنسى مع أسعد فضة.. لا أنسى أنني كنت في الثامنة عشرة من عمري، لا أزال أحلم كبحار متمرد على الشاطئ، همه الأقوى هواجس وسحر رؤى الإبحار في الإبداع والخلق والابتكار في مجال التأليف والإخراج والتمثيل. ولا أنسى أنني كنت يومئذ بأمس الحاجة لأن أجد من يفتح لي الباب الأول فيمنحني جواز سفر أدخل به إلى عالم الفن والكتابة في طريق الاحتراف، بعد أن أمضيت على شاطئ الحلم الأول – لاذقيتي – ربيع الطفولة والفتوة أتخبط بين أمواج هوايات عدة مثل صياد قصبة – سنارة – لا يعرف أي نوع من طعم السمك أو قياس نمر السنانير يختار، فهو بالطبع لن يعرف أي نوع من الأسماك ستلتقط سنارته، فرحت أمارس هوايات تناسب ذلك العمر، وأهمها التعلق بألق المسرح الذي لا أعرف إلى هذه الساعة ما الذي جذبني إليه لأختاره الهواية الأكثر تأثراً وتأثيراً في رحاب بحر الحياة. طلبت مقابلته، ولم أكن أتوقع أنني سأكون في حضرته خلال لحظات، شاباً في مقتبل العمر، يتحدث حول مشروع نص مسرحي، بإحساس لا يخلو من القلق والإرباك أمام نجم كبير ومدير للمسارح والموسيقا بوزارة الثقافة، كان قد ترك البريد الذي بدأ يذيل توقيعه عليه. وراح يصغي باهتمام لمتاهات بحار صغير، قرر تحديد انطلاق رحلته بأحداث درامية، يحاول التقاط جزئياتها فيرمي بملامح ظلالها بسرعة من يرجو استبصار الأمل، كمن وقع في مأزق فحاول أن يجد لنفسه مكاناً كفيلسوف يرسم الكلمة في جانب ومبدع فنان في جانب آخر. وفي الحالتين كانت لدي مشكلة في إقناع صمته ونظراته المتوجسة لكل خلجاتي الخارجية وربما الداخلية، وما إن انتهيت من سرد حكاية مسرحيتي، حتى رسم ابتسامته الطيبة، وسألني: ما اسم المسرحية؟.. فأجبته بتردد: (رحلة البحار الصغير).. وسألني ثانية: أين النص.. لماذا لم تحمله معك؟.. فاختلجت جوانب نفسي وأجبته بنبرة حرج: هو ليس معي الآن! فقال مبتسماً وبلهجة أبوية حنونة: عليك أن تحضره غداً وتسجله في الديوان.. ثم ودعني كما استقبلني بود واحترام رجال البحر، وما إن أغلقت الباب خلفي، حتى بدأت الأسئلة تجول بخاطري حول من أين وكيف سأحضر له نص المسرحية، وأنا لم أخطها بعد.. وعلى الفور شرعت بكتابة الأحداث التي كنت قد رويتها على مسمع النجم المدير.. إلى أن أنجزت مخطوط النص كاملاً.. وفي أقل من أسبوع تمت قراءة مسرحيتي وقرار موافقة لجنة النصوص على تملكها فأصدرت السيدة الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة آنذاك، قراراً ينشر في الجريدة الرسمية، متضمناً اقتناء النص، والمفاجأة غير المتوقعة، صرف مكافأة مالية للمؤلف، قدرها أربعة آلاف وخمسمائة ليرة سورية.. والتي كانت حلماً بالنسبة لشاب في عمري يتقاضى المبلغ الأول عن نص من تأليفه، وقد تحققت فيما بعد أنه اقتراح من النجم المدير الذي كان عادة يقترح أقل من ذلك المبلغ لأسماء كانت شهيرة في ذلك الحين. كما لا أنسى أنه لم يتردد بعدها في إعطائي أول فرصة للإخراج المسرحي لصالح وزارة الثقافة لنصٍ ثانٍ من تأليفي، ولم يكتف بذلك الدعم أمام ما كنت أحققه من نتائج، فاقترح بكتاب رسمي وجهه إلى السيدة الوزيرة كتباً للمسارح والمراكز الثقافية في المحافظات لاستقبال عروضي المسرحية الجوالة، وتقديم كل الخدمات اللازمة لها، وفي مرة لاحقة وجه للسيدة الوزيرة اقتراحه لتصدر قرارها بتكليفي في تأسيس مسرح الأطفال والفتيان التابع لوزارة الثقافة في منتصف الثمانينات. واليوم وبعد مرور نحو ربع قرن على منحك لي جواز السفر الإبحار، وتلك الذكريات التي كان لا بد من تسجليها وفاءً لمحبتك الأقوى والتي عجزت أمامها في التعبير عن الشكر لك بطريقتي يوم حضرت إلى مكتبك أحمل فرحي، بأول عمل تلفزيوني ينتج من تأليفي، بعنوان (لعبة الكراسي) طالباً موافقتك على تجسيد دور البطولة فيه، ولم أوفق بذلك بسبب انشغالك بأعمال عدة، كما تكررت الظروف التي لم يتسن لي تحقيق طموحي في التعبير عن قد وحجم ما تركته في من أثر، إلى أن سنحت الفرصة فلعبت أحد أدوار البطولة في مسلسل (أنشودة المطر) آخر عمل من تأليفي، وإخراج المبدع باسل الخطيب.. فاكتشفت أن ذلك غير كافٍ أو جدير بما هو أمر طبيعي، أمام ما يدفعني دائماً إلى رغبة أبعد من الطموح بمشاركتك في أعمال من تأليفي، أو حاجتي لاستضافتك بوصفك نجماً كبيراً في البرنامج التلفزيونية التي كنت أعدها في سنوات سابقة، أو الكتابة عن أعمالك في الصحف الدورية والمجلات الفنية. فأنت دون شك قامة تستحق الأكثر كفنان نجم له حضوره الاستثنائي في المسرح والسينما والتلفزيون، عرفته عن قرب في كل الأيام أباً حنوناً خبر الحياة والفن بكل أبعادهما الإنسانية والإبداعية. كبيرنا النجم المدير.. اعترف لك أنني لا أزال عاجزاً عن التعبير أمام فضلك الأول بما قدمته لي مع بدايات رحلتي بدمشق، واعترف أيضاً أنني عاجز عن التعبير بأحرف أبجدية مثل ما قبل بك في كلمات: الدكتور محمود السيد وزير الثقافة، الكاتب والباحث المسرحي فرحان بلبل، الشاعر أدونيس، الفنان جمال سليمان، الفنان أيمن زيدان، الكاتب والأديب وليد إخلاصي، الناقد د. نبيل الحفار، الفنان جهاد الزغبي مدير المسارح والموسيقا.. يوم تكريمك بمناسبة إعلان تسمية (مسرح أسعد فضة) على صالة المسرح القومي باللاذقية. لكنني أستطيع القول إنني كنت أحلم يوماً بمسرح أسعد فضة، على غرار مسرح القباني ذكراً للحب والإبداع، ومثالاً يحتذى به، نهنئ أنفسنا به قبل أن نهنئك بتكريم مستحق، فنهنئ المسرح بك، تقديراً لحقيقة جهودك المثمرة حاضراً معاصراً بيننا، تخلدك مدينتك لاذقيتنا التي قلت عنها: في هذه المدينة بهية المحاسن، مدينة الرعد والمطر، عرفت الحب حب الوطن والإنسان. حب الجمال في بحرها وجبالها وسهولها وجداولها وأغنياتها.
إلياس الحاج. |