ابسن والواقعية حياته: كانت القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر مسرحاً تتجدد الأحداث فوق خشبته من آن لآخر. أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية. فقد نشبت الحرب الأهلية في اميركا, وانتصرت بروسيا على الدانمرك. ثم قامت الحرب بين فرنسا وألمانيا, وبسطت بروسيا نفوذها على جميع الولايات الألمانية, كما قامت الوحدة بين الولايات الأيطالية وانعقد مؤتمر برلين, واشتد التنافس بين الدول الاستعمارية في سبيل كسب الأسواق لتصريف منتجاتها. ثم قامت الثورة الروسية فكانت نتيجة طبيعية لكل هذة المصائب التي تخبطت فيها القارة الأوروبية. هذا من الناحية السياسية أما من الناحية الاجتماعية فكان التغيير الذي حدث مذهلاً وقد جاء نتيجة للصراع بين قوى الرجعية والقوى التي تجاهد في سبيل التقدم والحرية, كما جاء على أثر شعور الأمم بالقومية. والحدث المهم في القارة الأوروبية في ذلك العصر. والذي يعتبر الشرارة التي اشعلت جميع الثورات من اجتماعية وخلقية وسياسية ودينية. هو ظهور الكاتب المسرحي النرويجي هنريك أبسن. فعندما سطع اسم هنريك ابسن ككاتب مسرحي أحدث دوياً تجاوبت أصداؤه في جميع انحاء القارة الأوروبية بل وفي العالم أجمع. فمن هو هنريك ابسن هذا؟ كان مولده يوم 20 مارس سنة 1828 في مدينة صغيرة تدعى (سكين) جنوبي النرويج. ابسن لا ينتمي بدمه إلى بلاد النرويج وحدها فإن أحد أجداده كان دنمركياً يدعى (بيتر ابسن) وكان قائداً بحرياً, ووالده )كنود هنريكسن( من أصل دانمركي ألماني أيضاً, ووالدته )كوزيليا التدبيرج) نروجية من أصل ألماني.. وهكذا فقد أخد ابسن الصغير عن أبيه حبه للنقد والسخرية وعن أمه ميلها إلى الفن والجمال إذ كانت من أرومه تجري من عروقها دماء الفن الدافئة. كان أبوه يشتغل في تجارة الأخشاب ويتمتع بثراء كبير, وفي ظل هذا الترف والثراء قضى ابسن الثماني سنوات الأولى من عمره إذ سرعان ما أودت المضاربات المالية بثروة أبيه وأعلن إفلاسه وأضطر إلى السكنى في ضاحية (فنستب) الريفية على بعد عدة أميال شمال سكين. وقضى سنين عدة في فنستب عانى منها الفاقة والحرمان والكفاف. ومن يدري لعل لهذه السنين الأثر الكبير في شحذ عبقرية ابسن والدافع له على الجد والعمل. وعندما بلغ من العمر الخامسة عشرة عادت الأسرة الى سكين وحاول أن يكون رساماً فأخفق وهجر الفن إلى عمل يكسب منه إذ اقتضته الضرورة أن يعنى بشؤون الأسرة بصفته كبير أخوته. فالتحق بعمل في إحدى الصيدليات بمدينة (جرمستاد) وظل يعمل فيها ست سنوات. بعيداً عن الناس منطوياً على نفسه ساخطاً على الروح البرجوازية التي تسود تلك البلدة. وفي ذلك الحين بدأ ينظم الشعر, والتحق بعد ذلك بجامعة (كريستيانا) بمدينة (اوسلو) ليدرس الطب. لكنه لم يوفق في دراسته فتحول إلى تأليف الكتب المدرسية وكتب عام 1850 مسرحيته الرومانسية العاطفية الأولى (كاتالين) ولم يتجاوز الثانية والعشرين. وظهرت في هذه الرواية بوادر عبقرية الكاتب الشاب. وظهر فيها ما كان ينطوي عليه من السخط على المجتمع والضيق به. ثم اشتغل بعد ذلك بإحدى الصحف العمالية وأتاح له عمله الصحفي الاتصال بالطبقات الفقيرة التي رآها ضحية للسياسيين فامتلأت نفسه شفقة عليهم. وحقداً على المستغلين. وعندما أنشأ الموسيقي (أول بول) مسرحاً في برجن دعا ابسن ليكون مديراً له. فوافق ابسن واشتغل مديراً لهذا المسرح مدّة ست سنوات من عام 1851 حتى عام 1857. أخرج خلال هذه السنوات مئة وخمسة وأربعين مسرحية. وهذا كافي لكي يكسبه خبرة واسعة في فن الصياغة المسرحية. وأكسبه أيضاً خبرة واسعة بشؤون المسرح والمسرحيات والتمثيل. ثم هناك عامل آخر في حياة ابسن, لا يقل أثراً من توليه منصب إدارة مسرح برجن الصغير والقيام بمهمة الإخراج فيه. وهو الرحلة التي هيأتها له المنحة المالية ومكنته من زيارة الدانمرك وألمانيا. ففي الدانمرك التقى بالكاتب الوجودي الشهير بل أبو الوجودية الدينية (سورن كيركارد). وقد تأثر ابسن بفلسفة (كيركارد) الذي كان يحرص أشد الحرص على استقلال الفرد وحسن ايمانه بنفسه, وأن تكون أفكاره وتصرفاته نابعة من ذاته. من الداخل وليست أفكاراً أو تصرفات مفروضة عليه من الخارج, ثم الدعوة إلى الجد والصرامة الخلقية واستمساك المرء بكرامته وحريته الفكرية والتزامه طريق الحق ما دام قد آمن بأنه الحق فعلاً ثم عدم الانثناء أمام الشدائد مادام احتمالها في صبر وجلد هو الذي يحقق مثل الانسانية العليا. ثم أخذ عنه ابسن ذلك المبدأ الأساسي الذي نراه شائعاً في معظم مسرحياته (الكل أو لا شيء). هذا المبدأ الذي يوصي بالصلابة وانكار المساومة ورفض أنصاف الحلول. فالشر ما دام شراً وجب القضاء عليه من جذوره, والشخص الذي يكون له حق فيساوم عليه ويقبل أخذ نصف هذا الحق فقط ثم ينزل عن النصف الآخر بمطلق رضاه هو شخص ضعيف ولن يلبث أن يضيع نصف حقه الذي حصل عليه. أما رحلته في ألمانيا فقد أتاحت له مشاهدة المسرح الألماني والأطلاع على أعمال كبار مخرجيه. فقد شاهد هناك لأول مرة مسرحيات شكسبير وهولبرج وسكريب. وهم الذين كان لفنِّهم أعمق الأثر في فنه. ويجب أن لا ننسى الدور الذي لعبته زوجته (سوزانا ثوزرن) في حياته فقد كانت على جانب كبير من رجاحة العقل وسمو النفس, ووقفت هذه الزوجة المخلصة إلى جانب زوجها في أحلك الأوقات حين تألب عليه الرجعيون الذين أزعجتهم صراحته وجرأته. وهذا يظهر صداه في مسرحية عدو الشعب. لقد بدأ ابسن الكتابة متأثراً بالرومنسية كما وجدنا في أولى مسرحياته (كاتالين) فكان في الفترة الأولى يتقفى أثر شكسبير ويتخبط في أمواج بحره الصاخب إلى أن أحس بضرورة التخلص من التأثير الرومانسي والاتجاه بإنتاجه الى الواقعية. فابتدأت فترة الواقعية في حياته العامرة منذ سنة 1869 بتلك الملهاة السياسية التي سخر بها من الساسة المحافظون والأحرار واسماها (رابطة الشباب). وسأقصر الكلام عن الواقعية وكيف تناولها ابسن في أعماله الأدبية. الواقعية: كان للمذهب الواقعي بذور منذ أقدم الأزمنة وكان التعارض قائماً بينه وبين المثالية Idealisme فكانت كل منهما تمثل وجهة نظر فلسفية خاصة في الحياة والأحياء. فالواقعية ترى الحياة في أصلها شراً ووبالاً ومحنة بينما تراها المثالية خيراً وسعادة ونعمة. ولكن إذا كان الفلاسفة قد فَطَنوا إلى التعارض القائم بين الواقعية والمثالية وتعصب لكل منهما فريق, حتى ظهرت مذاهب واقعية ومذاهب مثالية في الفلسفة, فإن هذا التعارض لم يمتد إلى الأدب ليخلق فيه مذهباً واقعياً إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فبعد أن هبت عاصفة المذهب الرومنسي في القرن السادس عشر مدة طويلة من الزمن في أوروبا على يدي شكسبير وفيكتور هيجو. والكسندر ديماس (الأب) وألفريد ديفيني. في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. لم يخطر على بال أن تخمد جذوة هذه العاصفة. ليهب التيار الواقعي في الأدب وهكذا ظهرت الواقعية على أيدي ستيندال وبلزاك وفلوبير وأضرابهم. وإذا كانت الرومانسية بحكم طبيعتها قد آثرت الشعر صورة لأدبها فإن الواقعية آثرت النثر بالضرورة. فهي لم تنشد شعراً ولم تنظم قصائد, وإنما كتبت قصصاً أو مسرحيات نثرية. وقد خلط كثير من الأدباء والنقاد في حديثهم عن الواقعية بينها وبين الطبيعية. كما أسيء فهمها عند الكثيرين منهم. فمنهم من يفسر الأدب الواقعي بأنه الأدب الذي يقوم على ملاحظة الواقع وتسجيله, لا على صور الخيال وتهاويله, وبذلك يعارضون بين هذا النوع من الأدب وبين الأدب الرومانسي. وفسره بعضهم بأنه الأدب الذي يستقي مادته وموضوعاته من حياة عامة الشعب ومشاكلها, ويباعدون بينه وبين أدب ارستقراطية الفكر والخيال. ويتبين لنا أيضاً أن بعض الكتاب يقصد أحياناً بالأدب الواقعي الأدب الموضوعي, وكأن واقع النفس الفردية لا يصلح مادة للأدب الواقعي. وهذا المفهوم الأخير يقودنا الى المفهوم الاشتراكي للواقعية. حيث نرى الاشتراكيون يقصدون من هذه الواقعية إلى تناول الأدب لمشاكل المجتمع ومظاهر البؤس والفاقة التي ترزح تحتها طبقات الشعب العاملة بسواعدها أو بعقولها, وذلك لإيقاظ وعي الجماهير ودفعها إلى حل تلك المشاكل بطريقة أو بأخرى. كل هذه المفاهيم هي ما يكتب اليوم في البلاد العربية وخاصة في مصر عن الواقعية, أما هذه الاصطلاح الذي انتقل إلينا عن طريق الغرب فإنه يفيد عندهم مدلولاً اصطلاحياً محدداً. والمدلول الاصطلاحي للفظة الواقعية كمذهب أدبي لا ينفصل انفصالاً كلياً عن المدلول الاشتقاقي المستفاد من كلمة واقع, فالواقعية تسعى إلى تصوير الواقع وكشف أسراره وإظهار خفاياه وتفسيره. ولكنها ترى ان الواقع العميق شر في جوهره, وأن ما يبدو خيراً ليس في حقيقته إلا بريقاً كاذباً أو قشرة ظاهرية, فالشجاعة والاستهانة بالموت لو نقبنا عن حقيقتهما لوجدناها يأساً من الحياة أو ضرورة لا مفر منها. والكرم في حقيقته أثره تأخذ مظهر المباهاة, والمجد والخلود تكالب على الحياة وإيهام للنفس بدوامها أو استمرارها, وهكذا الأمر في كافة القيم المثالية التي نسميها قيماً خيرة وما هي إلا أغلفة نحيلة لا تكاد تخفي الوحش الكامن في الانسان وهو ذلك الوحش الذي عبر عنه الفيلسوف الانجليزي الواقعي هوبز بقوله: ((إن الإنسان للإنسان ذئب ضار)). ومن التفسير السابق للواقعية يتضح أنها ليست الأخذ عن واقع الحياة وتصويره بخيره وشره كالآلة الفوتوغرافية كما أنها ليست معالجة لمشاكل المجتمع ومحاولة حلها أو التوجه نحو هذا الحل فقط, كما أنها ليست ضد أدب الخيال أو الارستقراطية. وإنما هي فلسفة خاصة في فهم الحياة والأحياء وتفسيرهما. أو هي وجهة نظر خاصة ترى الحياة من خلال منظار أسود, وترى أن الشر هو الأصل فيها. وأن التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لاالمثالية والتفاؤل. كما أن الواقعية لا تبشر بشيء, ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة. فكل هذا بعيد عن طبيعتها, وإنما كل همها هو فهم واقع الحياة وتفسيره على النحو الذي تراه. وهو فهم وتفسير قد ينتج عنهما الخير وقد ينتج عنهما الشر. فالخير يأتي من التبصير بالواقع حتى لا يقع الأخيار فريسة للأشرار. أو حتى لا تقودهم المثالية الساذجة إلى الفشل في الحياة أو إلى التردي في مآزقها كما أنها قد نتفر من قبح هذا الواقع وتدفع إلى إصلاحه. وأما الشر فقد يأتي من التشكيك في القيم المثالية والأخلاقية, وهي قيم إن - لم تكن حقائق واقعة - فهي ضرورات خيرة لا بد منها لكي تستقيم حياة الفرد وحياة المجموع ولكي لا ترتد الإنسانية إلى الهمجية الأولى, أو إلى الوحشية الفطرية حتى ليقول فولتير: ((لو لم يكن الله موجوداً لوجب أن يُخترع)). واصل التيار الواقعي تطوره حتى انتهى عند إميل زملا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مذهب الطبيعية. وبما أن المذهب الطبيعي قد تفرع عن المذهب الواقعي ويعتبر امتداداً له, فكثيراً ما يختلط الأمر على الأدباء والباحثين بين هذين المذهبين. إلا أن هناك فوارق في الكم والكيف بين الواقعية والطبيعية, نوردها فما يلي: فإذا كانت الواقعية تعتمد على الملاحظة المباشرة لكي تصور الواقع على النحو الذي آمنت بحقيقته, فإن الطبيعية لا تكتفي بالملاحظة بل تستعين بالتجارب والأبحاث العضوية والفسيولوجية لمعرفة حقائق الإنسان العميقة وحقائق الحياة. والواقعية في ملاحظتها لأفعال الناس والحكم عليها بنتائجها - لا تنكر الإرادة الإنسانية كلية ولا تقطع الصلة بالمذهب الروحي من سائر الوجوه, فإن الطبيعية تدين بالجبر الطبيعي الذي يترتب على القول بالخصلة المسيطرة على الكائن الحي مما لا يترك مجالاً للصراع الداخلي. ومن ثم كان الغالب على الشخصيات أنها بسيطة في ذاتها غير مركبة. أي أنها قطعة واحدة لا تختلف فيها الجملة عن التفصيل, ولا يدخلها تغيير ولا تبديل بل تمضي قدماً إلى غايتها بحكم الجبر الطبيعي. وإذا كانت الواقعية في اهتمامها بالواقع تتناول الفرد بالدراسة والتصوير والتحليل فإن الطبيعية في تناولها للطبقات الشعبية لا تبغي بذلك أن تظهر فضائل مغمورة أو تكشف عن جوانب شعرية مكنونة خفية, بل همها الأكبر إظهار الغرائز في أغلظ صورها وأبعدها عن تهذيب التربية وطلاوة المدنية. ثم أن الواقعية في تناولها للواقع تتكلف أن تعده إعداداً فنياً. أما الطبيعة فإنها تأبى إلا أن تفرض ما تسميه (شريحة من الحياة) دون تجهيزها وعرضها في القالب الفني المصطلح عليه. من هذه الفوارق بين الواقعية والطبيعية تبين لنا أن الأدب الطبيعي ليس له رسالة أخلاقية, ولا هو بالعمل الفني. ولما كان هذان العنصران هما قوام المسرح, يتبين لنا خطورة الطبيعية على المسرح, وأنه مهدد بالزوال إذا استولت عليه الطبيعية. وقبل ان أنهي الكلام عن الواقعية لأتعرض إلى أعمال ابسن بالتحليل والدراسة أريد أن أذكر وجهة نظر أخرى بالنسبة للواقعية. هي الواقعية الاشتراكية. فهناك تفسيرات جديدة لمعنى الواقعية انبثقت من العالم الاشتراكي وهذه التفسيرات ترى في الواقعية تفاؤلاً وإيجابية وعدم يأس من الخير عند الفرد وفي المجتمع. والواقعية الاشتراكية تستبعد تناول شخصيات سلبية متخاذلة رغم وجود هذه الشخصيات في المجتمع. ويقول المُعتَنِقون لهذه الواقعية: أن كل فن اختبار واختيار الشخصيات السلبيه المتخاذلة لتصويرها ينم عن ضعف وشيخوخة. ويقولون أيضاً: إن ما نسميه واقعاً ليس إلا الصورة الذهنية التي لدينا عن الحياة, فأي شيء لا يتخذ وجوده إلا من الصورة الذهنية التي لدينا عنهُ, ولما كانت هذه الصورة ملكنا فنحن نستطيع ان نلونها باللون الذي نريده, والذي نرى فيه مصلحة لأنفسنا ولمجتمعنا. ثم أنه لا يلزم لكي يوصف الأدب بالصدق أن يقص ما حدث فعلاً, بل يكيفيه أن يقص ما يمكن حدوثه دون أن يوصف بالاستحالة أو عدم المعقولية, وبذلك يصبح أدبا معقولاً مشاكلاً للحياة وبالتالي صادقاً. وبعد هذا العرض المقتضب الذي تعرفنا من خلاله على المذهب الواقعي نتناول في ما يلي أعمال ابسن التي تدخل ضمن نطاق هذا المذهب ونقف عند بعضها وقفة استطلاع وتحليل. لنعرف كيف سار ابسن في هذه الطريق؟ وبأي هَديٍ؟ لا شك أن ابسن هو أبو الثورة الواقعية في الأدب خلال القرن الثامن والتاسع عشر رغم وجود أدباء آخرون انتصروا لهذا المذهب وكان لهم باع طويل في خلق هذه المذهب. إلا أن ابسن يعد الرائد الأول للمدرسة الواقعية وذلك لأنه كان أقوى كتاب هذه المدرسة في اوروبا كلها. لقد وجدنا من خلال تعرضنا لحياة ابسن ذلك الإنسان المكافح المجد, الإنسان الصارم ذي الارادة القوية وجدنا إنساناً عرك الحياة وخالط معظم طبقات الشعب, ووقف منهم موقف الناقد المحلل, فوقف على خيرِهم وشرِهم. وقد راعه ما وجد فيهم من عيوب, واذهله ما يتخبطون به من جهل وانحطاط. فأخذ على نفسه عهداً بأن يطهر مجتمعه ويخلصه من الأدران والطفيليات التي تفتك به وتكاد تودي بجسمه. جاعلاً من قلمه طريق الهداية إلى الحق والفضيلة. وهكذا كان لكل سطرٍ خطه ابسن صدى كبير الأثر في جميع أنحاء العالم. فكانت كل كلمة فيه ثورة على التقاليد والعادات, ثورة على المعتقدات والأوضاع الاجتماعية البالية. كان أدبه ثورة فكرية اجتماعية وبنية خلقية بل ثورة على الأدب نفسه على تقاليده الكلاسيكية والرومنسية. وفيما يلي سنتعرض لمسرحية بيت الدميه التي ضمنها ابسن آراءه في الحياة الزوجية والمشاكل التي كانت تكتنفها في ذلك العصر. كانت المرأة في عهد ابسن مهضومة الحق ما هي إلا تابع للرجل, لا يحق لها الحرية في الرأي والأستقلال في الفكر, لا يحق لها ان تطالب بحقوقها. بل عليها أن تنفذ ما يلقى على عاتقها من واجبات. فجاءت مسرحية بيت الدميه صرخة في أذن كل امرأه, وهتافاً للنساء في جميع أنحاء العالم بأن يطالبن بحقوقهنّ, ويصحين من الكبوة الطويلة التي سيطرت عليهنّ تلك الحقبة الطويلة من الزمن. فقد أراد ابسن أن يظهر النتائج التى تترتب عن عدم المساواة في الحياة الزوجية, وأن عدم المساواة في الحقوق بين الجنسين في أمور الزواج مجلبة للتعاسة, فأظهر هذا بمقدرة فائِقة في مسرحيته بيت الدمية.
(بيت الدمية) وملخص المسرحية أن هيلمر زوج نورا قد أصيب بمرض خطير كاد يودي بحياته. فنصح له الأطباء أن يسافر إلى ايطاليا للاستشفاء. لكن المال لم يكن متوفراً لديه, ففكرت زوجته فوراً, تلك الزوجة المخلصة المتفانية في حب روجها وأولادها الثلاثة أن تنقذ زوجها بأي وسيلةٍ من الوسائل. فكرت بأن تحصل على المبلغ, ولكن من أين؟ وأخيراً اهتدت الى كروجشتاد ذلك الرجل الذي يحترف هذه المهنة. وبحكم كونها امرأة لا تقبل امضاؤها على الكمبيالة, إذاً لا بد لها من كفيل, ومن يكون هذا الكفيل؟ طبيعي أن يكون زوجها أو أحد أقاربها. لكن زوجها لا يحب الإقتراض. ويفضل الموت على أن يهين كرامته أو يتنازل عن ذرة من كبريائه, أذن فلم يبق إلا والدها, وأبوها مريض على شفى حفرة من الموت. ولا يمكن لنورا أن تفاتح أبوها بهذا الموضوع وتشاء الأقدار أن يقض أبوها نحبه, وهنا تزوّر نورا إمضاء والدها وتحصل على النقود, ثم تسافر مع زوجها ليعالج نفسه, وتوفق الرحلة ويرجع هيلمر موفور الصحة مزوداً بالسلامة. دون أن يعرف من أين حصلت نورا على النقود وكيف. ثم يرتقي هيلمر إلى رتبة مدير البنك ويترك مهنته كمحامي ليشغل منصبه الجديد. وهيلمر هذا بحكم تمسكهِ بالمُثُل والنظام الدقيق يطرد كروجشتاد زميله في الدراسة والموظف في هذا البنك وذلك لأن الأخير اتُهِم بتزوير إحدى المعاملات المالية. ويلجأ كروجشتاد إلى نورا يلتمس عندها رجاء كي تشفع له عند زوجها, وتحاول نورا لكنها تخفق. فيلجأ كروجشتاد إلى تهديدها بإطلاع زوجها على سر القرض المالي كما يهددها بتقديمها للقضاء لأنه اكتشف أن إمضاء والدها مزورة, إذ أن تاريخ الأمضاء بعد وفاة والدها بثلاثة أيام. وتحاول نورا إقناع زوجها بالإبقاء على كروجشتاد في البنك, ولكن دون جدوى. فيضطر الأخير إلى إلقاء خطاب في صندوق البريد في بيت هيلمر موضحاً فيه الموضوع بأكمله, ويضطلع هيلمر على الجواب, وهنا تثور ثائرتِهِ ويشنّ حملة شعواء على زوجته المسكينة الطيبة, مجرداً إياها من جميع مكارم الأخلاق والفضيلة. وتكون النتيجة بأن تصحو نورا لنفسها بعد ثماني سنوات قضتها مع هيلمر وكلها أمل وترقب بأن يغير نظرته ومعاملته لها. فتغادر المنزل تاركة زوجها وأولادها الثلاثة إلى غير رجعة. وبهذا انقطع الرباط المقدس الذي جمع هذه العائلة, وانقلبت حياة كل منهما الى جحيمٍ لا يطاق. ولكي نقف على الأسباب الحقيقة لهذة النتيجة المؤسفة سنتعرض بالتحليل لكلٍ من شخصية هيلمر ونورا. لقد جسم لنا ابسن الأنانية والأثر في شخصية هيلمر. إن هيلمر رجل طموح دؤوب لا يكل من العمل, رجل واعِ ذو ضمير يقظ جدير برئاسة البنك. ويأخد أعباء المسؤوليات على عاتقه فلا يتهاون بصغيرة أو كبيرة من دقائق اعماله. نظامي إلى أبعد حدود النظام, يحاول أن يطبق هذه النظام بشدة وصرامه على المشتغلين معه كما يتطلب منهم التفاني في أداء الواجب. إن هيلمر شخصاً يحافظ على كرامته ومركزه في المجتمع, كما أنه يعرف أهمية منصبه ويرعاه بكل ما أوتي من حرص وعناية, وهمه الأكبر هو أن يظل محترماً في أعين الناس, ولا يبالي أن يضحي بكل شيء حتى حبه في سبيل هذا الاحترام, لقد وضع لنظام حياته دوائر لا يتحرك إلا داخلها كما فرض هذا الدوائر على الذين يتعامل معهم وكانت زوجته نورا ضمن من طبق عليهم نظامه وافكاره بقسوة وغلظة فهو لا يجد فيها إلا دميه, وطفلة صغيرة, لا تستطيع أن تعيش بأفكارها, كما أنها لا يمكنها أن تقرر مصيرها في الحياة, ولذا يجب عليها أن تعيش بهديٍ من وحي عبقريته الفذة. كما أن هيلمر رجل مستقيم لا تستعبده عادة سيئة, فهو لا يدخن ولا يذوق الخمرة إلا في المناسبات كريم الخلق يتمسك برفيع المحامد التي يجب أن يعرفها الناس فيه, وبإختصار فإنه يقدس احترام الناس لشخصه وهيلمر يحب أسرته حباً لا حد له. وهذه هي حال الشخص الذي يكرهه الآخرون ويخافونه - إذ أن هيلمر يكرهه كل من هم دونه ويعجب به كل من هم فوقه – فمن هنا تشتد حاجته إلى مزيد من الحب الذي يفتقده, أكثر مما يحتاج الإنسان العادي. أما نورا, فشخصية ظريفة تتمتع بروح الطفلة, تميل الى الكذب والخداع أحياناً كما يفعل الأطفال, وهي مرحة ذات ظلٍ خفيف تهوى الرقص والغناء, وتحاول أن تنشر جواً من المرح في بيتها. إنها مهملة قليلة المبالاة, لكنها مع ذلك تتفانى في حب زوجها وأطفالها, إنها تحب زوجها ذلك الحب المغامر الذي يجعلها تأتي في سبيله أعمالاً لا يمكن أن تأتيها في سبيل أي مخلوقٍ آخر.. فحبها لزوجها وإعجابها به جعلها ترضى أن تكون زوجته الدمية. إنها ذكية لكن نموها الذهني بطيء, لقد كانت مدللة عند أبيها, ثم انتقلت إلى زوجها فزادها دلالاً. وهذا هو علة بطء نموها الذهني إذ أنها لم تدرك أن زوجها يعاملها كاللعبة إلا بعد هذه الفترة الطويلة من الزمن, أو لعلها كانت تدرك لكن حبها له جعلها ترضى بهذا إلا أنها لم تفكر بالتحرر من هذا الدلال الذي قضى على شخصيتها إلا بعد أن تحطمت حياتها على صخرة الحقيقة التي كانت تخفيها مدة السنوات الثمانية. ثم إن النظرة التي كان ينظر بها لنورا على أنها طفلة, ثم تعيير هيلمر لها بالتشبه بأبيها جعلها تفكر بالقيام بأعمال لها قيمتها, وتتصرف تصرفات تنم عن نبل واعتداد في الشخصية. وهذا ما جعلها تخفي موضوع اقتراض النقود عن زوجها فمن ناحية تحافظ بها على كرامتِهِ. ومن ناحية أخُرى تحتفظ لنفسها بالفخر والرضى عندما تحس أنها قامت بهذا العمل مستقلة وبوحيٍ من تفكيرها فقط. إن نورا كانت مثال الزوجة المخلصة الوفيه المطيعة. لقد انقادت لأوامر زوجها وتخلت عن كثيرٍ من حقوقها وابتلعت كثيرٌ من الاهانات وضحت بهناءتها في سبيل إرضاء زوجها وسعادة أولادها. ولكن عندما وقف زوجها هيلمر هذا الأناني البشع على تلك الهفوة البسيطة التي بدرت منها وفي سبيل من؟ في سبيله هو. فماذا كان موقفه منها؟. لنرى في الحوار الآتي الحماقة التي ارتكبها بحقها. هيلمر: (بعد ان وجد خطاب كروجشتاد في صندوق البريد) أيتها التعسة, ماذا فعلت. أتدركين مغبة عملك أجيبي. أتدركين مغبة عملك.؟ نورا: نعم لقد بدأت الآن أدرك الحقيقة. هيلمر: يا لها من صحوة مفجعة. ثماني سنوات, وأنا أعقد عليها آمالي في الحياة, وأنظر إليها بخُيلاء, فإذا بها منافقة كاذبة. بل وأسوأ من هذا.. مجرمة. إن بشاعة اللفظ وحدها تثير الاشمئزاز يا للعار. ياللعار. كان يجب أن أتوقع شيئاً من هذا القبيل, كان يجب ان استبق الحوادث بشيءٍ من بعد النظر. إن خِسة أبيكِ وطباعه المتدهورة قد انتقلت إليكِ. فلا دينٌ ولا أخلاق, ولا إحساس بالواجب. وهذا عقابي لأنني اغمضتُ عيني عن سيئاته من أجلك يا له من جزاء. نورا: فعلاً. هيلمر: لقد حطمتي سعادتي, ودمرتي مستقبلي, ما أبشع المصير في قبضته, ذلك المحتال الأفّاق. إنه لقادرٌ على أن يفعل بي ما يشاء وأن يطالبني بما يشاء, وأن يملي عليّ إرادته دون أن أملك له رفضاً. وكل هذا بفضل امرأة طائشة لا تقدر المسؤوليه. نورا: ستعود إليك حريتك عندما أنزاح من الطريق. هيلمر: لا أريد كلاماً مرصوصاً من فضلكِ كان أبوكِ هو الآخر يحفظ أمثلة كثيرة عن ظهر قلب. ماذا يفيدني أن تنزاحي من الطريق كما تقولين؟ أليس قادراً على أن ينشر الفضيحة على الملأ؟ وإذ ذاك لن أسلَمَ من الاتهام بأنني كنت شريكاً لكِ في جريمتك؟ بل وللناس العذر إن داخلهم الظن بأنني الفاعل الحقيقي من وراء الستار, وأنني أنا الذي أوحيت إليك بما بدر منكِ. وهكذا نجد هيلمر يتهجم على زوجته نورا تهجماً تطاول به إلى مثلها الأعلى أبوها, ووجدنا أن فرائصهُ قد ارتعدت خوفاً من الفضيحة, ثم أنه لا يقيم وزناً لنورا و المشكلة التي تحيقُ بها, فهي حتى لو انزاحت من طريقه فهذا لا يمنع من انتشار الفضيحة, وإزاحتها من الطريق ليست بذي قيمه عنده أكثر من انتشار الفضيحة. ولكن ما أن تأتي الخادمة بخطاب كروجشتاد الذي عدل فيه عن رأيه في خطابه الأول حتى تنفرج أسارير صاحبنا هيلمر ويقفز صائحاً من الفرح نورا لقد نجوت, نورا لقد نجوت. وهنا يسقط القناع عن وجهه وتظهر أنانيتِهِ البشعة على حقيقتها, فكل ما يهمهُ هو نفسه, يهمه أن ينجو وتظلُ سمعته محافظة على مظهرها البراق. أما زوجته, فقد نسي ذكرها في هذه اللحظة, ولكن عندما تذكره بقولها. نورا: وأنا. هيلمر: وأنت أيضاً بالطبع. انظري إنه يعيد لك الكومبيالة, ويبدي أسفه معتذراً عما بدر منهُ. فهو يفترض أن خلاصه هو معناه خلاصها هي وما دام سعيداً يجب أن تكون هي سعيدة, ولهذا أجابها بكل بساطة, وأنت أيضاً بالطبع. أي أن هذا أمراً مفروغاً منه. هيلمر: لقد سامحتك يا نورا وصفحت عنك. نورا: شكراً لك عن هذا الصفح (تخرج من باب اليمين) هيلمر: نورا ماذا تفعلين عندك؟ نورا: أخلع عن نفسي ثوب الدمية. هيلمر: لا بأس, اخلعيها أرجوكِ, وهدئي روعكِ, وعودي ثانية إلى طمأنينة النفس وهدوء القلب يا عصفورتي الصغيرة المغردة. نورا: (في ثياب النهار) لقد غيرتُ ثيابي الآن. هيلمر: وما الداعي في هذه الساعة المتأخرة؟ نورا: هذه لأنني لم أعد أستطيع الحياة معك أكثر مما بقيتُ. هيلمر: نورا. نورا. إنك لست في كامل عقلك. أنا لا أسمح لكِ إنني أمنعكِ. نورا: لم يعد ثمة أية فائدة من أن تمنعني من شيءٍ بعد. هيلمر: ألم تعودي تحبينني؟ نورا: كلا هيلمر: نورا, وتستطيعين أن تقوليها؟ نورا: أقولها وإن كان قولها يؤلمني ألماً فظيعاً.. ولكن.. ما العمل..؟ عندما وضعت يديك على خطاب كروجشتاد, كنت متأكدة أنك ستقول له أذع القصة على الملأ. ثم تتقدم لتحمل عني وزر المسؤولية قائلاً أنا المذنب. هيلمر: فهمت. فهمت. لقد حدثت بيننا هوة كبيرة. وأنا لا أنكر هذا. ولكن يا نورا ألا يمكن سدّ هذه الهوه؟ نورا: إنني بحالتي التي أنا فيها الآن لست لك بزوجة (تتناول معطفها وقبعتها وحقيبة صغيرة) هيلمر: نورا.. لا يمكنك أن تخرجي الآن. انتظري حتى غد. نورا: (وهي تلبس معطفها) لا يمكنني قضاء الليل في منزل رجل غريب. هيلمر: يعني.. انتهى كل شيء. كل شيء. ولن تفكري في مرة أخرى؟ نورا: بل سيتجه فكري معظم الوقت إليك, وإلى الأطفال, وإلى هذه البيت, وداعاً (تخرج من باب الصالة). هيلمر: (يتهاوى على أحد المقاعد بالقرب من الباب ويغطي وجهه بيديه) نورا. نورا. (ينظر حوله ثم يقف) فراغ. لقد ذهبت. (يسمع باب المنزل وهو يغلق من بعيد من تحت) وبهذا يسدل الستار على نهاية حياة زوجية حطمت بسبب عدم المساواة بين المرأه والرجل. فلقد أجاد ابسن في إظهار العواقب الوخيمة التي تنتج عن اغفال المرأه في الحياة الزوجية إذ أنها الظل الوارف الذي يأوي إليه الرجل يلتمس فيه الراحة من اعباء الحياة ومشاغلها. وأحب أن أقول أن ابسن أراد أيضاً إلى جانب ذلك أن يظهر الداء الوبيل الذي يتولد عن الأكاذيب والغموض الذي يكتنف الجو العائلي. فتكتم نورا على موضوع القرض المالي وإخفائِهِ عن زوجها كل هذه المدة من الزمن هو الذي قادها إلى هذه النتيجة ولو أن نورا فاتحت زوجها بالموضوع فربما قبل زوجها بتسوية الأمر وانتهى كل شيء بأمان. ولكن هذا لا يثبت لابسن مقدمته المنطقية التي وضعها للرواية. كما أن هناك أسباب أخرى كما رأينا جعلت نورا لا تبوح بالسر لزوجها. وخلاصة القول أن هذه المسرحية تعتبر من صميم الواقعية من حيث مضمونها, بل وتعد من أعظم ما كتب ابسن من حيث واقعيتها وأثرها في الحياة الاجتماعية. فلقد صور لنا ابسن قطاعاً من الحياة الزوجية في عصره فقدت فيها الزوجة كل ما يجب أن تتمتع به المرأة في عشها الزوجي من حقوق, أمام رجل أناني متكبر أحمق, لا يهمه إلا مركزه وسمعته وقد ضحى بحبه في سبيل الحفاظ على ذلك القناع البشع الذي يظهره بمظهر الرجل المحترم لدى الناس. فكان هذا سبباً في انفصام عرى الرباط المقدس الذي جمعهم ثمانية أعوام لتتقطع أوتاره على صخرة الواقع والحقيقة. عدوّ الشعب والواقعية الأشتراكية: لا شك أن ابسن قد ألقى أضواء كشافاته على حقائق الاشتراكية إن كان قاصداً ذلك أم لا. لقد كان ابسن من أكبر المنادين إلى الحرية والعدالة والاشتراكية. ولم يترك مجالاً اجتماعياً إلا وخاضه مدافعاً عن الحق مؤيداً للعدل. ممزقاً أقنعة الزيف التي يتستر تحتها الناس, لقد هاجم المحتالين النصابين الذين يستغلون مراكزهم للتحكم في مصائر البشر, وهاجم أصحاب المصالح من التجار وأصحاب الأعمال الذين لا يرون الحياة إلا من نافذة جشعهم وحقارتهم وابتذاز أموال الضعفاء تحت ستار العدالة المزيف. لقد هاجم الرجعية الاحتكارية بصورها البشعة وطعنها في الصميم بمسرحيته التي سخر بها من هؤلاء السفلة المجرمين (أعمدة المجتمع) لقد فضح ابسن هؤلاء المدّعين الكاذبين, الذين ينصِّبون أنفسهم مصلحين للمجتمع وما هم في الحقيقة إلا الجراثيم السارية التي تفتك بجسمه وتمتص دمهُ إذ يقول على لسان القنصل: لقد عرفت أخيراً أنكن أيتها النساء دعامات المجتمع وتجيبه مسز هيسيل: ان ما عرفته شيء تافه. أن روح الحقيقة والحرية هما الدعامتان القويتان للمجتمع. ثم اليسَ ابسن القائل على لسان براند: إنه لأمرٌ مروع أن يقف المرء وحيداً. وإن من يقاتل بمفرده فإنما يقاتل قتال اليائِس.؟. وهل هناك دعوة أقوى من هذه إلى التعاون بين أفراد المجتمع. والمرأة؟ من حررها من قيود المجتمع الغاشم؟ من نادى بحريتها وطالب أن تخرج من بيتها التى ظلت رهينته قروناً من الزمن؟ إنه ابسن. ابسن صديق المرأة الحميم الذي وجد فيها جزءاً متمماً للعالم فنادى بأن تنتلق إلى الحياة, إلى العمل, إلى المساهمة في بناء المجتمع. فثار بها على العلاقة الزوجية المبتورة في بيت الدمية. وجعلها الساعد الأيمن الذي يطرق به الإنسان باب الحق والعدالة في عدو الشعب كما انتصر لها في أعمدة المجتمع. وأعطاها مطلق الحرية في سيدة البحر وحملها مسؤوليه هذه الحرية. وقد لاقت أصوات ابسن آذاناً صاغية في جميع أنحاء القارة الأوروبيه, ففي عام 1884 قامت في انجلترا الجمعية الفابيه, وذلك بعد تمثيل مسرحية بيت الدمية على مسارحها بثلاث سنوات حيث مُثِّلت عليها سنة 1881. وكانت هذه الجمعية تضم طائفة من المفكرين والكتاب التقدميين الذين يفكرون تفكيراً اشتراكياً سليماً. وجدوا فيه الوسيلة الصحيحة لكل اصلاح, وكان من أعضاء هذه الجمعية برنارد شو. ولو أنه تطرق بعد ذلك إلى ما وراء هذه الاشتراكية المعتدلة. ثم إن الثورة الابسنية لم تقف عند حد تكوين الجمعيات الاشتراكية في معظم بلاد العالم بل تعدتها إلى قيام الأحزاب العمالية التي عنت بشؤون العمال والمحافظة على حقوقهم. كما ساعدت في بناء المدارس لتعليم البنات وقيام الجمعيات النسائية لتثقيف المرأة وتعريفها بحقوقها كزوجة وأم وربة بيت. وقد قال الكاتب الناقد الأمريكي برتن راسكو في كتابه (عمالقة الأدب الغربي) عن الثورة الابسنية: لقد كانت الثورة التي قام بها ابسن ثورة جوهرية خطيرة الشأن بل كانت تَربى ألفَ ضعف في أهميتها على أيه ثورة سياسية أو اقتصادية لأن الثورة السياسية لا تنتِج إلا مجرد تغييرات في الامتيازات, كما أن الثورة الاقتصادية لا تؤثر إلا في مجرد توزيع الثروة, بينما الثورة التي قام بها ابسن في أعظم الأمور والعلاقات, كالحب والعلائق بين الرجال والنساء والآن لنعد الى مسرحية عدوّ الشعب. فإذا أردنا أن نطبق الاشتراكية كفكرة على هذه المسرحية فقد نخطئ التوفيق. لأن ابسن قد بلغ فيها ذروة الذاتية الفردية. كما أن الشخصية التي كانت تحمل الأفكار الاشتراكية في المسرحية بادئ الأمر وهي شخصية الصحفي بيلنج, نراها في الأخير شخصية وصوليه متقلبه حيث نجد أن حماسه وانتصاره لأفكار الدكتور ستوكمان وعدوانه للطبقة الارستقراطية, ومناداته بالثورة, كل ذلك انقلب الى ضده. وتنكر لكل هذا تنكراً مخذياً. في النهاية تحت سيطرة الانتهازيين الرأسماليين, ولكننا نستطيع أن نطبق الاشتراكية كمذهب أدبي واقعي على مسرحية عدوّ الشعب حيث أن الواقعية الاشتراكية ترى في الإنسان تفاؤلاً وإيجابيه وعدم يأس من الخير عند الفرد وفي المجتمع. ونجد التفاؤل والإيجابيه وبذور الخير عند الدكتور ستوكمان الذي ضحى بكل شيء في سبيل أن ينقذ الآخرين من أضرار المستنقعات. ولنذكر في ما يلي ملخصاً للمسرحية قبل أن نبدأ بالكلام عنها. ملخص المسرحية: أن الدكتور ستكومان طبيب الحمامات المعدنية في المدينة اكتشف أن بعض الجراثيم الفتاكة قد تسربت إلى مجاري الحمامات مما جعل ماء الحمامات مضراً بالصحة. فنادى بإغلاق الحمامات إلى أن يتم إصلاح المجاري, وعندئذٍ قوبل بحملة شعواء من أهالي المدينة لأن في إغلاق الحمامات تهديد لمواردهم منها, ولأن تشهيره بالصحف بأن الحمامات موبوءة سيمنع المصطافون من الإقبال على المدينة, وبذلك يكون الدكتور ستوكمان بمثابة الخطر الذي يهدد مصالحهم, ويحاول الدكتور ستوكمان إقناعهم بإصلاح المجاري, لأنها لو بقيت على حالها فستجلب الوباء للمصطافين وأهل المدينة أيضاً, ولكن دون جدوى وأول من يقف له بالمرصاد أخوه العمدة. ويلجىء الدكتور ستوكمان إلى الصحف فتخذله, ثم يلجىء الى الشعب فيثور عليه ويُلَقِبَهُ بعدوّ الشعب, ويطرد أولاده من المدرسة ويرجم منزله بالحجارة, ثم يطرد من وظيفته, ويقف الجميع في وجههِ وقفة لا تعرف المهاونة والمساومة. وبعد كل ما حلّ به نجده يصر على ان يطهر الحمامات من الأوبئة, ويكتشف من خلال تجربته هذه بأنه ليست الحمامات وحدها هي التي بحاجة إلى التطهير, بل الحياة التي يحياها هذا القطيع من المجتمع هي التي بأمس الحاجة إلى التطهير والتنقية. فيظل سائراً في طريقه هذا دون أن تلين له إرادة أو يهبط عزم. يعضده في سيره هذه امرأته وأولاده ضاربين بسمعتهم ومورد رزقهم عرض الحائط. لكن هذا الدرس القاسي الذي لقنه المجتمع للدكتور ستوكمان, جعله يكفر بالمجتمع ويعرض عنه معتمداً على ذاته فقط مردداً: إن أقوى رجل في العالم هو الذي يقف في الدنيا وحيداً. فلو أردنا أن نطبق الواقعية الاشتراكية على هذه الرواية فقد نصيب إلى حدٍ ما لأن بطل المسرحة الدكتور ستوكمان يجمع بين جنباته الخير والتفاؤل والإيجابية, فالدكتور وامرأته وأولاده وصديقه هورستر يمثلون في الرواية الجانب الواقعي الاشتراكي, ولو كان بعض النقاد قد أخذوا على ابسن واتهموه بالأرستقراطية الفكربة في هذه الرواية وكان الهجوم عليه من قبل الاشتراكيين بالذات, واتهموه بالبرجوازية المتطرفة التي تُنكر امكانيات قيام الأعمال الجماعية في مسرحيتيه (عصبة الشباب وعدوّ الشعب). فالدكتور ستوكمان لا يفتأ يقول من حين لآخر أنه بصدد ثورة على الأكذوبة السائرة وهي أكذوبة أن الغالبية وحدها صاحبة الحقيقة. ليقول أيضاً أن هذه الغالبية المتراصة السافلة هي التي تسمم موارد حياتنا الخلقية وتعدي بوبائها الأرض التي نحن عليها. هذا الكلام يمكن أن يتخذ كحجة في أيدي الذين اتهموا ابسن بالبرجوازية المتطرفة, ولكن لو دققنا النظر في موقف الدكتور ستوكمان, كيف كان يعامل الناس عندما كان موظفاً بالحمامات ونظرته إليهم في ذلك الوقت, لعذرناه أخيراً على ثورته عليهم ووصفهم بالغالبية المتراصة الملعونة الدهماء الغوغاء والعاديين الجهلة الناقصي التكوين. إن الدكتور ستوكمان كان مؤمناً بالمجتمع ايماناً تاماً في أول الرواية وكان يوطد صلاته بهم ويعقد صداقاته معهم بصدق عجيب, وإيمانٍ صادر من قلبٍ طيب, فقد جعل من بيته مضافة لأصدقائه وعاملهم في منتهى الكرم والنبل, وكان يعلق عليهم الآمال الكبار في السير بالمجتمع نحو التقدم والازدهار, فعندما لامهُ أخوه على تبذيره بقوله: بيتر: (ينظر صوب غرفة الطعام) عجباً كيف يلتهمون كل هذا المقدار العظيم من الطعام. الدكتور: (يمسح كفيه احداهما بالأخرى) نعم أليس مما يسر النفس أن نرى الشبان وهو يأكلون؟ إنهم جياع دائماً وهذا ما يجب ان نقدمه لهم. لا بد أن يأكلوا إنهم يحتاجون إلى القوة. هم الذين عليهم أن يحركوا ما يَختَمِر الآن من قوى المستقبل يا بيتر. ولا يطاوعني قلبي فأحرم نفسي لذتها بإضافة أخواني, لقد أصبح من ضروريات الحياة عندي أن اختلط بالشباب الناهض, بالرجال المتحمسين ذوي المطامح, ذوي العقول الحرة النشيطة. وهذا ينطبق تمام الانطباق على هؤلاء الأشخاص الذين يستمتعون الآن بطعامهم. ومن هم أصدقائه هؤلاء. هو فستاد رئيس تحرير مجلة رسول الشعب, والشاب بيلنج الذي يتظاهر بالأفكار التقدمية الاشتراكية والمحرر في هذه الجريدة ثم القبطان هورستر وأخيه عمدة المدينة بيتر. ووالد زوجته مورتن كيل صاحب المدبغة التي تتسرب قذارتها وقذارة المدابغ الأخرى إلى مجاري الحمامات وتتسبب في تسميمها. واسلاكسن صاحب المطبعة التي تُطبع بها جريدة رسول الشعب. هؤلاء هم الأشخاص الذين علق عليهم الدكتور ستوكمان آمالاً كباراً للاصلاح والتقدم لأنهم أولي الأمر القائمين على شؤون البلدة. ويمثلون القادة في المجنمع.. لكنه وجد أن أخيه رجعي بأفكاره محباً للمظاهر البراقة الخادعة ولا يمكن التعاون معه, لذا عقد آماله كلها على اللسان الناطق الذي يستطيع أن يكلم بواسطته الجمهور ألا وهو الصحافة. وقد لاقى تجاوباً من قبل رجال الصحافة مع أفكارهِ وآرائهِ, وأظهروا لهُ الحماس والتأييد بحيث لا يمكن أن يشك بعد ذلك بإخلاصهم ونزاهتهم. لقد كان الخلاف حول فساد الحمامات ووجوب إصلاحها. فمن كان صاحب الفكرة بانشاء هذه الحمامات؟ إن الدكتور ستوكمان هو أول من رأى أن البلدة ممكن أن تصبح بلدة حمامات زاهية يستشفى بمائها, ولقد جاهد وحده مدة أعوام عديدة في سبيل تحقيق هذه الفكرة, وتحققت الفكرة وأصبح الدكتور ستوكمان طبيباً مسؤولاً عن الحمامات والاشراف عليها. إلى أن اكتشف أن مياه الحمامات ومياه الشرب بدأت تتسمم نتيجة تسرب قاذورات المدابغ الى مجاريها, فنزاهته وضميره الحي وحرصه على سلامة المواطنين أبت عليه أن يقف مكتوف اليدين أمام هذا الأمر. وبعد فحص الماء والتأكد من فساده طالب المسؤولين بإصلاح المجاري. فماذا جرى؟ لقد كشروا أنيابهم في وجهه واتهموه بالأنانية والتآمر على مورد أرزاقهم, وكان في طليعتهم بطبيعة الحال أخوه العمدة. ولا يجد أمامه إلا طريق الصحيفة يعلن بواسطتها للملأ أن مياه الحمامات ومياه الشرب موبوءة لكي يتقي الناس الخطر ويبتعدوا عن هذه المياه الموبوءة. فماذا كان موقف هؤلاء منه, هؤلاء الذين آمن بهم إيمانه بنفسه بعد أن ألقوا على أنفسهم ذلك الدَثار الذي خُطَّت عليه عبارات الاخلاص والوطنية والشرف. لقد كتب الدكتور ستوكمان مقاله عن الحمامات وأرسلها إلى دار رسول الشعب وها هو بيلنج يحمل مسودة المقالة ليريها إلى رئيس التحرير هوفستاد. هوفستاد جالس إلى مكتبه يكتب, يأتي بيلنج من اليمين ومعه مسودة مقالة الدكتور ستوكمان. بيلنج: يجب أن أقول هوفستاد: (وهو مشغول بالكتابة) هل قرأتها؟ بيلنج: (يضع المسودة على المكتب) أجل فعلاً. هوفستاد: ألا ترى أن الدكتور يضربهم ضربات قوية؟ بيلنج: قوية؟ يا مغيث إنها هاشمه. هوفستاد: نعم, ولكن هؤلاء الناس ليسوا ممن ينثنون تحت أول ضربة. بيلنج: هذه صحيح, ولهذا يجب أن نضربهم مرة بعد أخرى حتى ينهار بناء تلك الارستقراطية حجراً فوق حجر. لقد خيل إليّ وأنا اقرأ هذه المقالة أن الثورة على الأبواب. يا له من كلام. يخيل للمستمع أنه نابع من قلبٍ عامر ينبض بالصدق والثورة. ويدخل الدكتور ستوكمان المطبعة وبلينج في أوج حماسه. الدكتور: لك الآن ان تشرع في العمل وتنشرها يا سيد هوفستاد. هوفستاد: وصلت المسألة الى هذا الحد أذاً بيلنج: مرحى. مرحى. الدكتور: نعم. انشرها. فعلاً وصلت المسألة إلى هذا الحد. لا بد لهم الآن أن يأخذوا ما يستحقون. سيحدث في البلدة نضال يا مستر بيلنج. بيلنج: آمل أن يكون نضالاً بالسكاكين, سنضع السكاكين على حلوقهم يا دكتور. الدكتور: ما رأيك في مقالتي يا مستر هوفستاد؟ هوفستاد: أرى أنها آية من الآيات. الدكتور: أترى ذلك حقاً؟ إني مسرورٌ جداً. مسرورٌ جداً. هوفستاد: إنها واضحة المبنى والمعنى لا يحتاج الإنسان لفهم محمولها إلى سبق علم خاص وسيكون معك كل رجل مستنير. سننشرها في عدد الغد. الدكتور: لأن المسألة كما تعلم لا تقتصر الآن على كونها مسألة مورد الماء والمصارف. لا إن حياتنا الاجتماعية كلها محتاجة الى التطهير والتنقية. هوفستاد: أنت رجل تستحق أن تنصر يا دكتور. اسلاكسن: نعم. لا شك في أن الدكتور صديق حقيقي للمجتمع. هذا هو الواقع. بلينج: صدقني يا اسلاكسن أن الدكتور ستوكمان هو صديق الشعب. وهنا يتأثر الدكتور تأثراً شديداً إزاء هذا السيل الجارف من العواطف ويشكر اصدقاءه ويودعهم منصرفاً وكله أمل أنهم سيأخذون بيده إلى الطريق الذي يريد أن يعبره. وبعد أن ينصرف الدكتور ستوكمان يأتي أخوه العمدة الى المطبعة, وتتدخل المصالح الدنيئة وتتعاون قوى الشر ضد الدكتور ويتبخر الكلام المعسول الذي سمعناه سابقاً كما تتبخر عقاقير ساحر هندي عندما يضيفها إلى ناره المرقية السحرية. ويعود الدكتور ستوكمان إلى المطبعة فيجد أخاه هناك. ويفاجأ بهوفستاد يقابله بهذا الكلام. هوفستاد: (للدكتور) لقد عرضتُ موضوعك في أنوارٍ كاذبة يا دكتور ولذلك لا يسعني أن أكون معك. الدكتور: أنوار كاذبة؟ دع هذا الجانب من الموضوع لي. ما عليك إلا أن تنشر هذا المقال - إني قادر تمام القدرة على الدفاع عنه. هوفستاد: إني لا أنشره. أنا لا أستطيع ولا أريد, بل ولا أجرؤ أن أنشره. اسلاكسن: لن تجد في المدينة رجلاً واحداً يسير معك يا دكتور. بيلنج: كلا. ملعون أنا إن وجدتُ رجلاً واحداً. يا لخيبة الأمل التي مُنِيَ بها صديقنا الدكتور, فهؤلاء الذين كانوا بالأمس مثال النبل والشرف رايه العدالة ودعائم الحق نراهم الآن على حقيقتهم السافرة. مرائين, مخادعين. عديمي الضمائر. لا أخلاق عندهم ولا مبادئ ولا قيم, وكل ما يهمهم أن يحافظوا على مصالحهم حتى ولو كان في ذلك خراب الآخرين. أناس وصوليون المهم أن يعيشو حتى ولو كانت أرخص حياة وبأحط الوسائل. لكن الدكتور ستوكمان لا يقطع أمله, ويعتمد على الشعب ويصر على أن ينقل أفكاره علانيه بخطبه يلقيها إليهم موضحاً فيها أمر الحمامات ووجوب إصلاحها, ويتخذ من بيت صديقه هورستر مكاناً للإجتماع, ويجتمع معظم سكان المدينة ليستمعوا إلى قول الدكتور ستوكمان. ولكن ما أن يبدأ كلامه حتى يلاقي معارضة شديدة من قبل أولي الشأن الذين تألبوا عليه, وما هي إلا دقائق حتى تتعالى أصوات الصفير في وجه الدكتور من المجتمعين ملقبينه بعدوّ الشعب وكاره الوطن. فيضطر الدكتور ستوكمان أن يغادر قاعة الحفل مع امرأته وأولاده وصرخات الموجودين تطارده بكلمة عدوّ الشعب, عدوّ الشعب. وهل يتوقف الأمر على ذلك؟ أبداً. ففي اليوم التالي طُرِدت ابنته التي كانت تعمل مدرسة في إحدى المدارس من وظيفتها. كما أن أولاده تعرضوا لاعتداءات زملائهم في المدرسة وطُرِدوا منها شرّ طَردة. وهكذا وقف المجتمع المتحجر في وجه هذا الرجل الشريف وسُدّ عليه جميع السبل. ولم يكفه ذلك أيضاً, بل أراد أن يُدك البيت الذي يأويه على رأسه فرجموه بالحجارة بكل ما زُيّنَت لهم نفوسهم الوضيعة من الإنذفاع الطائش والبغض الأعمى. فماذا كان موقف الدكتور ستوكمان بعد كل ذلك؟. هل حنى هامته أمام هذه المقاومة العنيفة؟ هل فكر أن يتهاون أو يفرط ولو بجزء ضئيل من مبادئِهِ وكرامتِهِ؟. أبداً. لقد فضل أن يموت جوعاً وعائلته من أن يتنازل عن أفكاره ومطاليبه وكل ذلك في سبيل من؟ في سبيل أن ينقذ حياة هؤلاء الذين لقبوه عدوّ الشعب من الوباء الذي يهدد سلامتهم. فإذا كان الدكتور ستوكمان قد ضحى بسعادته وسعادة أبنائه وكانت مكافئته السخرية والازدراء من قومٍ تفانى في خدمتهم, فهل نَعيبُ عليه فقد ثقته بهؤلاء الذين زرعوا طريقه بالآمال التي لم يحصد منها غير الشوك؟ هل نلومهُ في تعييرهم بالجهل والغباء والسلبية, أو أنه لم يكن مؤمناً بغير ذاتيته فقط؟ وهذا هو يدافع عن نفسه عندما يصفه هوفستاد بالارستقراطية: هوفستاد: إذاً فقد أصبح الدكتور ستوكمان ارستقراطياً منذ أمس الأول. الدكتور: لقد سبق لي القول أنني لا أريد أن أنفق كلمة واحدةً في الكلام عن الفئة الضئيلة, الضيقة الصدر, القصيرة النظر, التي تتولى الزمام. لا. لم تعد الحياة النابضة تشغل نفسها في أمرهم, إنما أنا أفكر في العدد القليل من الرجال المبعثرين بيننا. أولئك الرجال يقفون في الطليعة, وهناك هم يقاتلون في سبيل الحقائق التي لم تتمخض دنيا العقل عنها إلا منذ عهد قريب جداً فلم يتيسر أن يكون لها من الأنصار عدد يذكر. إن الدكتور ستوكمان رجل مثالي يهدف إلى المثالية في جميع تصرفاته, فلا يعرف المحاباة, ولا يقر بالمهانة أو أنصاف الحلول ونجد أن مذهب ابسن (الكل أو لا شيء) يظهر بوضوح تام في شخصيته فالشر ما دام شراً يجب أن يقتلع من جذوره, وأن الشخص الضعيف في نظره هو ذلك الذي يساوم على حقوقه, ويقبل بالحصول على جزء منها, إذ لا بد أن يفقد الجزء الآخر في يوم من الأيام. وعندما يتهمه العامة بأن محاولته هذه ما هي إلا هدم للمجتمع يجيبه بقوله الدكتور: وماذا في هدم مجتمع من الخطورة إذا كان هذا المجتمع يعيش على الأكاذيب, الواجب أن يهدم حجراً على حجر. نعم. كل من يعيشون بالأكاذيب جديرون أن يبادوا كما تباد حشرات الأرض. وهكذا نجد أن الدكتور ستوكمان يحمل فكرة فلسفية أو مبدأ فلسفي هو (الكل أو لا شيء) وهذا ما يوضح واقعية عدو الشعب الاشتراكية. إذ تقوم الواقعية الاشتراكية على أساس فلسفي, مخالف للواقعية العادية, فالدكتور ستوكمان يحقق إلى حد كبير آراء ابسن الوجودية المتدينة والتي أخذها عن (ك. ج) تدعو إلى الجد والصرامة الخلقية. واستمساك المرء بكرامته وحريته الفكرية والتزامه طريق الحق ما دام قد آمن بأنه الحق فعلاً. ثم عدم الانثناء أمام الشدائد ما دام احتمالها في صبر وجلد هو الذي يحقق مثل الإنسانية العليا. وكل هذا يبدو بوضوح تام في شخصية الدكتور ستوكمان, فقد كان جاداً في كل ما يقدم عليه متمسكاً بمبادئ الأخلاق والكرامة إلى أبعد حدود التمسك, ثم وجدنا أنه بالرغم من كل المضايقات والمتاعب التي لاقاها ظل سائراً في الطريق الذي قرر المضي فيه رافعاً نفس الرايات التي آمن بها من قبل غير متأثر بما يهدده من خطر. ثم قلنا أن الواقعية الاشتراكية تفاؤل وإيجابية وأن الانسان بفضل ثقته وإيمانه بنفسه يستطيع أن يسيطر على مصيره وأن يتغلب على عوامل الشر والفشل. وأن يغلب عناصر الخير على عناصر الشر بفضل عزيمته وإرادته. وهذا ما يظهر عند الدكتور ستوكمان وزوجته وأولاده وصديقته هورستر. فالدكتور عرفنا موقفه منذ البداية حتى النهاية, أما زوجته فكانت مؤيدة له وقد لعبت مع أولادها وخصوصاً ابنتها المدرسة دوراً كبيراً في حياة ستوكمان, فما أجمل أن يلاقي الإنسان أهل بيته يؤيدونه ويشاركونه أفكاره حتى لو كان في ذلك ما يهدد حياتهم ومستقبلهم ثم الصديق هورستر الذي عرض نفسه لحقد الشعب وسخطهم عليه بسماحه للدكتور أن يحاضر في منزله. بل فقد عمله الذي يعيش منه, حيث عزل من قيادة السفينة التي كان يعمل بها. وكل ذلك بسبب من؟ بسبب وقوفه إلى جانب الدكتور وتأييده له. وهكذا نجد التفاؤل والإيجابية ونمو عناصر الخير في نفوس هذه الشخصيات والكفاح من أجل التغلب على عناصر الشر.
|