شخصية فنية ابسن بين الواقعية والرمز تقديم: أسعد فضة ((كنت أريد أن أتحكمَ في كل منابع ِ القوةِ في هذه البلاد. كلَّ الثروة المخبئة في الأرضِ والصخورِ والغابات والبحر. كنت أريد أن أجمعها كلَّها في يدي, وأن أجعلَ نفسي سيداً لهذا كلَّه. وعندئذٍ, أستطيع أن أرتقيَ بمستوى رفاهية الآلاف العديدة)). بهذا المنطق يتكلم معظم أبطال ابسن, منطق العظمة الفردية. فحب السيطرة غلاب في نفوسِهم. حيث يدفعهم ذلك إلى الاعتقاد بضآلة البشر. واعتبارِ أنفسهم العالم بأجمعه. بكل ما فيه من مدٍّ وجزر. ولم يكن هذا منطقُ أبطال ابسن فقط, بل منطق العصر الذي عاش فيه ابسن. منطق القرن التاسع عشر في أوروبا. فقط عَرَفَ أوَّلُ هذا القرن (نابليون) الذي فرد أجنحته على جميع أوروبا. كما كان هناك بعضُ السياسيين الذين امتازوا بالخديعة أو بالعنف مثل (مترنيخ) و (بسمارك). وساد القرن التاسع عشر في أوروبا نظام الغاب حيث النهب والتسلط, فالقوي يأكل الضعيف, والصراع بأعنفِ صوره بين قوى الرجعيةِ, والقوى التي تجاهد في سبيل التقدم والحرية. والدول الاستعمارية, تتنازع فيما بينها على النفوذ والسيطرة وكسب الأسواق الخارجية. فالحرب الأهلية, تلتهم نارُها الأرضَ الامريكية. والحرب قائمة بين فرنسا وألمانيا. بينما أصبحت الدانمرك تحت نفوذ بروسيا. وشبه جزيرة القرم مسرحاً تتجددُ عليه الحملات من وقت لآخر. وإلى جانب الأحداث السياسية والاجتماعية, ساعدت الحركة العلمية في هدم كثيرٍ من المعتقدات القديمة. مثل ظهور (دارون) ونظريتَه الشهيرة وظهور نظرية النسبية التي زعزعت الجمودَ والثبات الذي كان يسيطر على الأفكار المجردة. وقد أحدثَ ظهوُر ابسن ككاتب مسرحي دوياً تجاوبت أصداؤه في جميع القارةِ الأوروبية. ذلك لأن المجتمعَ كان بحاجةٍ إلى من يعالجُ مشاكِلَه, ويحطمُ الأصنامَ التي آمن بها مدةً طويلةً من الزمن. نور يسطع: كان مولد ابسن يوم 20 آذار سنة 1828 في مدينة (سكين) جنوب النرويج. وابسن لا ينتمي بدمه إلى إلى بلاد النروج وحدها. فإن أحد أجداده دانمركياً يدعى (بيتر ابسن) كان قائداً بحرياً. ووالده من أصل دانماركي ألماني أيضاً. أما والدته نرويجية من أصل ألماني. وهكذا فقد أخذ ابسن الصغير عن ابيه حبه للنقد والسخرية. وعن أمه ميلها للفن والجمال. إذ كانت من عائلة تجري في عروقها دماءُ الفن الدافئة. وقد تردى ابسن في مجاهلِ الفقر والحرمان, بعد أن أودت المضارباتُ المالية بثروة أبيه. حاول أن يكون رساماً فأخفق وهجر الفن إلى عمل يكسَب منه, إذ اقتضته الضرورة, أن يُعنى بشؤون الأسرة بصفته كبيرُ أخوته. فالتحق بعمل في إحدى الصيدليات بمدينة (جيرمستاد) وظل يعمل فيها مدةَ ستِ سنوات, بعيداً عن الناس, منطوياً على نفسه, ساخطاً على الروح البورجوازية التي تسود تلك البلدة. وفي ذلك الحين بدأ ينظُمُ الشعر. وبعد ذلك التحق بجامعة (كريستيانا) ليدرسَ الطِب. لكنه لم يوفق بدراسته فتحول إلى تأليف الكتب المدرسية. وكتب عام 1850 مسرحيتَه الرومانسيةَ الأولى (كاتيلينا) ولم يتجاوز وقتها الثانية والعشرين. ظهرت في هذه الرواية بوادرُ عبقريةِ الكاتب الشاب, وبينت ما كان ينطوي عليه من السخط على المجتمع والضيق به. ثم اشتغل بعد ذلك بإحدى الصحف العمالية وأتاح له عملُه الصحفي الاتصال بالطبقات الفقيرة, التي رآها ضحية للسياسيين, فامتلأت نفسُه شفقةً عليهم وحقداً على المستغلين. ثم اشتغل مديراً لمسرح (اولي بل) Ole Bull مدة ست سنوات أخرج خلالها مائة وخمسةٍ وأربعينَ مسرحية. وقد أكسبَه ذلك خبرةً واسعةً في فن الصياغة المسرحية. وشؤون المسرح. ثم منحته الحكومة منحة مالية مكنته من زيارة الدانمارك وألمانيا. ففي الدانمارك التقى بالفيلسوف الوجودي الشهير أبو الوجودية الدينية (سورن كيركجارد). وقد تأثر ابسن بفلسفة (كيركجارد), الذي يحرص أشدَّ الحرص على استقلال الفرد وحسن ايمانه بنفسه. وأن تكونَ أفكاره وتصرفاتُه نابعةً من داخلِ ذاته. وليست أفكاراً أو تصرفات مفروضةً عليه من الخارج, ثم الدعوة إلى الجِّّدِ والصرامةِ الخلقية. واستمساك المرء بكرامته وحريته الفكرية, والتزامه طريق الحق ما دام قد آمن بأنه الحقُّ فعلاً, ثم عدم الانثناءِ أمام الشدائد, ما دامَ احتمالُها في صبر وجلد, هو الذي يحققُ مُثُلَ الانسانية العليا. ثم أخذ ابسن عن كيركجارد ذلك المبدأ الأساسي الذي نراه شائعاً في معظم مسرحياته (الكل أولا شيء). هذا المبدأ الذي يتمسك بالصلابة, وانكار المساومة, ورفض أنصاف الحلول. فالشر ما دام شراً وَجَبَ القضاء عليه من جذوره. والشخص الذي يكون له حق فيساوم عليه ويقبل بالتخلي عن جزء من هذا الحق شخص ضعيف. هذا في الدانمارك, أما في ألمانيا, فقد أتاحت له رحلتُه مشاهدةَ المسرح الألماني والاطلاع على أعمال كبار مخرجيه, فقد شاهد هناك لأول مرّة, مسرحيات شكسبير وهيبل وهولبرج وسكريب وكان لهؤلاء أعمق الأثر في فنه. فكان في الفترة الأولى يقتفي أثرَ شكسبير ويتخبط في أمواج بحره الرومانسيَ الصاخب. إلى أن أحس بضرورة التخلص من التأثير الرومانسي والاتجاه بانتاجه إلى الواقعية. فابتدأت الواقعية في حياته منذ سنة 1869 بتلك الملهاة السياسية التي سخر بها من الساسة المحافظين والأحرار واسمها (رابطة الشباب). الواقعية في الأدب المسرحي: مر ابسن في حياته المسرحية بثلاث مراحل: الرومانسية والواقعية والرمزية, ولكن معظم مسرحياته استندت إلى المذهب الواقعي وللمذهب الواقعي بذور منذ أقدم الأزمنة. وكان التعارضُ قائماً بينه وبين المثالية Idealisme فكانت كلُّ منهما تمثل وُجهَة نظر فلسفية خاصة في الحياة والأحياء. فالواقعية ترى الحياةَ في أصلِها شراً ووبالاً ومحنةً. بينما تراها المثالية خيراً وسعادة ونعمة. ولكن إذا كان الفلاسفة قد فطنوا إلى التعارض القائم بين الواقعية والمثالية, وتعصب لكل منهما فريق, حيث ظهرت مذاهبُ واقعية ومذاهبُ مثالية في الفلسفة. فإن هذا التعارض لم يمتد إلى الأدب ليخلق فيه مذهباً واقعياً إلا في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر. فبعد أن هبت عاصفة المذهب الرومانسي مدةً طويلةً من الزمن في أوروبا على يد شكسبير في القرن السادس عشر. وفيكتور هيجو, والكسندر ديماس (الأب). وألفريد ديفيني في الثلث الأول من القرن التاسع عشر لم يخطر على بال أن تخمدَ جذوة هذه العاصفة ليهب التيار الواقعي في الأدب. وهكذا ظهرت الواقعية على يدي ( ستندال) و (بلزاك) و (فلوبير) وأضرابِهم. وإذا كانت الرومانسية بحكم طبيعتها قد آثرت الشعر صورةً لأدبها فإن الواقعية آثرت النثر بالضرورة. فهي لم تنشد شعراً ولم تنظم قصائد. وإنما كتبت قصصاً أو مسرحيات نثرية. وقد خلط كثير من الأدباء والنقاد في حديثهم عن الواقعية. بينها وبين الطبيعية, كما أسيء فهمها عند الكثيرين منهم. فمنهم من يفسرُ الأدبَ الواقعي بأنه الأدبُ الذي يقومُ على ملاحظةِ الواقع وتسجيله, لا على صورِ الخيال وتهاويله, وبذلك يعارضون بين هذا النوع من الأدب وبين الأدب الرومانسي. وفسّره بعضُهم بأنه الأدب الذي يستقي مادتَه وموضوعاتِه من حياة عامة الشعب ومشاكِلها, ويباعدون بينه وبين أدب ارستقراطية الفكر والخيال. وتبين لنا أيضاً أن بعضَ الكتاب يقصدُ أحياناً بالأدب الواقعي الأدب الموضوعي, وكأن واقعَ النفس الفردية لا يصلُحُ مادةً للأدب الواقعي. وهذا المفهوم الأخير يقودُنا إلى المفهوم الاشتراكي للواقعيه. حيث نرى الاشتراكيون يقصدون من هذه الواقعية تناول الأدب بمشاكل المجتمع ومظاهر البؤس والفاقة التي ترزح تحتها طبقات الشعب العاملة بسواعدها أو بعقلها. وذلك لايقاظ وعي الجماهير ودفعِها إلى حلِّ تلك المشاكل بطريقةٍ أو بأخرى. والحقيقة أن الواقعية تسعى إلى تصوير الواقع وكشف أسراره وإظهار خفاياه وتفسيره. ولكنها ترى أن الواقعَ العميق شرٌ من جوهره. وأن ما يبدو خيراً ليس في حقيقته إلا بريقاً كاذباً أو قشرة ظاهرية. فالشجاعة والاستهانة بالموت, لو نقبنا عن حقيقتِها لوجدناها يأساً من الحياة. أو ضرورةً لا مفر منها. والكرم في حقيقته يأخذ مظهر المباهاة. والمجد والخلود تكالب على الحياة وإيهامٌ للنفس بدوامها واستمرارها. وهكذا الأمر في كافة القيم المثالية التي نسميها قيماً خيره. وما هي إلا أغلفةٌ نحيله لا تكاد تخفي الوحش الكامن في الانسان. وهو ذلك الوحش الذي عبر عنه الفيلسوف الانجليزي الواقعي (هوبز) بقوله: ((إن الانسان للانسان ذئب ضار))[1] ومن التفسير السابق للواقعية يتضح أنها ليست الأخذَ عن واقع الحياة وتصويره بخيره وشره كالآلة الفوتوغرافية, كما أنها ليست معالجةً لمشاكل المجتمع ومحاولة حلِّها أو التوجه نحو هذا الحلِّ فقط, كما أنها ليست ضدَ أدبَ الخيال أو الارستقراطية. وإنما هي فلسفةٌ خاصةٌ في فهم الحياة والأحياء وتفسيرها, أو هي وُجهة نظر خاصة ترى الحياة من خلال منظار أسود. وترى أن الشر هو الأصل فيها. وأن التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لا المثالية والتفاؤل. كما أن الواقعية لا تبشر بشيء ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة, فهذا بعيد عن طبيعتها. وإنما كل همها هو فهم واقع الحياة وتفسيره على النحو الذي تراه. وهو فهم وتفسير قد ينتج عنهما الخير وقد ينتج عنهما الشر. فالخير يأتي من التبصير بالواقع, حتى لا يقعَ الأخيارُ فريسةً للأشرار, أو حتى لا تقودُهم المثالية الساذجة إلى الفشل في الحياة, أو إلى التردي في مآزقها. كما أنها قد تنفر من قبح هذا الواقع وتدفع إلى إصلاحه. وأما الشر فقد يأتي من التشكيك في القيم المثالية والأخلاقية. وهي قيم - إن لم تكن حقائق واقعة – فهي ضرورات خيره لا بد منها لكي تستقيمَ حياةُ الفرد وحياةُ المجموع ولكي لا ترتدَ الانسانيةُ إلى الهمجية الأولى أو إلى الوحشية الفطرية حتى ليقول فولتير: ((لو لم يكن الله موجوداً لوجب أن يخترع)) الواقعية والطبيعية: واصَلَ التيارُ الواقعي تطورَه حتى انتهى عند (إميل زولا) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مذهب الطبيعية إلا أن هناك فوارق بين الواقعية والطبيعية. فإذا كانت الواقعية تعتمد على الملاحظة المباشرة لكي تصور الواقع على النحو الذي آمنت به. فإن الطبيعية لا تكتفي بالملاحظة, بل تستعين بالتجارب والأبحاث العضوية والفسيولوجية لمعرفة حقائق الانسان العميقة وحقائق الحياة. والواقعية في ملاحظتها لأفعال الناس والحكم عليها بنتائجها لا تُنكر الإرادة الانسانية كليةً ولا تقطعُ الصلةَ بالمذهب الروحي من سائر الوجوه فإن الطبيعية تدين بالجبر الطبيعي الذي يترتب على القول, بالخصلة المسيطرةِ على الكائن الحي, بما لا يترك مجالاً للصراع الداخلي, ومن ثمَّ كان الغالب على الشخصيات أنها بسيطةٌ في ذاتها غير مركبة. أي أنها قطعةٌ واحدةٌ لا تختلف فيها الجملةُ عن التفصيل. ولا يدخُلُها تغيير ولا تبديل, بل تمضي قدماً إلى غايتها بحكم الجبرِ الطبيعي. وإذا كانت الواقعية في اهتمامها بالواقع تتناول الفردَ بالدراسة والتصوير والتحليل, فإن الطبيعية في تناولها للطبقات الشعبية لا تبغي بذلك أن تظهر فضائلَ مغمورة, أو تكشِفَ عن جوانبَ شعرية, مكنونة خفية. بل همُها الأكبر, إظهار الغرائز, في أغلظ صورِها, وأبعدِها عن تهذيب التربية, وطلاوة المدنية. ثم إن الواقعية في تناولها للواقع تتكلف أن تُعِدَّه إعداداً فنياً. أما الطبيعية فإنها تعرض ما تسميه (شريحة من الحياة) دون تجهيزِها وعرضِها في القالبِ الفني المصطلح عليه. هناك تفسيرات أخرى للواقعية ترى فيها تفاؤلاً وإيجابيه وعدم يأسٍ من الخير عند الفرد والمجتمع, وهذا التفسير الجديد يُطلقُ عليه الواقعية الاشتراكية. وهذه تستبعد تناول شخصيات سلبية متخاذِلة رغم وجود هذه الشخصيات في المجتمع, ويقول المُعتَنقون لهذه الواقعية: إن كل فن اختيار, واختيار الشخصيات السلبية المتخاذلة لتصويرها, ينمُّ عن ضعف وشيخوخة. وإن ما نسميه واقعاً ليس إلا الصورةُ الذهنية التي لدينا عن الحياة وأي شيء لا يتخذ وجوده إلا من الصورة الذهنية التي لدينا عن الحياة ولما كانت هذه الصوره مِلكُنا فنحن نستطيع أن نلونَها باللون الذي نريدُه. والذي نرى فيه مصلحة لأنفسنا ولمجتمعنا. ابسن والواقعية: كتب ابسن عدداً من المسرحيات الواقعية منها: عدو الشعب, وهيدا جابلز, وسيد البنائين, جون جبرييل بوركمان, وحين نبعث عن الموتى, والأشباح, وأعمدة المجتمع, وبيت الدمية. وقد عالج ابسن في هذه المسرحيات مشاكلَ المجتمع وآفاته. وما ينطوي عليه من خداع وزيف. وتقاليد وعادات. وإرادات منحرفة. وسأكتفي في هذا الحديث بالتعرض لمسرحية بيت الدمية بالدراسة والتحليل. كانت المرأة في عهد ابسن مهضومةَ الحقوق, ما هي إلا تابَعٌ للرجل, لا يحق لها الحريةَ في الرأي, والاستقلال في الفكر, فجاءت مسرحيةُ بيت الدمية صرخةٌ في أذن كل امرأة, وهتافاً للنساء في جميع أنحاء العالم بأن يطالبن بحقوقهِن. ويصحين من الكبوة التي سيطرت عليهِن تلك الحُقبة الطويلة من الزمن. بيت الدمية: ملخص المسرحية أن (هيلمر) زوج (نورا), وهو يعمل محامي. قد أصيب بمرضٍ خطير كاد يودي بحياته, فنصح له الأطباء أن يسافرَ إلى إيطاليا للاستشفاء, لكن المال لم يكن متوفراً لديه. ففكرت زوجته نورا تلك الزوجة المخلصة المتفانية في حب زوجها وأولادها الثلاثة أن تنقذ زوجَها بأية وسيلة من الوسائل. ففكرت بأن تحصل على المبلغ, ولكن من أين؟ وأخيراً اهتدت إلى (كروجشتاد) زميل زوجها في الدراسة وزميله في الوظيفة أيضاً. ولكن بحكم كونها امرأة لا تقبل امضاؤها على الكمبيالة. إذن لا بد من كفيل ومن يكون هذا الكفيل؟ فزوجها لا يحب الاقتراض, ويفضل الموت على أن يهين كرامته أو يتنازلَ عن ذرةٍ من كبريائه. إذن فلم يبقى إلا والدُها, ووالدها مريض ولا يمكن لنورا أن تفاتحه بهذا الموضوع. وتشاء الأقدار أن يموتَ والدُها, وهنا تزوِّرُ نورا إمضاءَه على الكمبياله وتحصل على النقود, ثم تسافر مع زوجها للعلاج, فتوفق الرِحلة ويرجع زوجُها موفورَ الصحة, وهو لا يعرف من أينَ حصلت نورا على النقود, وبأية طريقة. ويرتقي هيلمر إلى رتبة مدير البنك الذي يعمل فيه (كروجشتاد). وذات مرة يرتكب كروجشتاد خطأ بتزويره أحدى المعاملات المالية, فيطرده هيلمر من البنك. يلجأ كروجشتاد إلى نورا لتشفع له عند زوجها. وتحاول نورا لكنها تخفق, فيلجأ كروجشتاد إلى تهديدها باطلاع زوجها على سر القرض المالي. وتقديمها للقضاء, لأن امضاء والدِها مزور. فتاريخ الامضاء بعد وفاة والدِها بثلاثةِ أيام. وعندما تخفق المحاولات مع هيلمر يلقي كروجشتاد خطاباً في صندوق بريد هيلمر موضحاً فيه موضوع القرض المالي. ويطلع هذا الأخير على الجواب فتثور ثائرته ويشن حملة شعواء على زوجته المسكينة. تنتهي بأن تترك نورا البيت تاركة زوجَها وأولادَها الثلاثة إلى غير رَجعة, وينقطع الرِباط المقدس الذي جمع هذه العائلة ثمان سنوات. ولكي نقف على الأسباب الحقيقية لهذه النتيجة المؤلمة سنتعرض بالتحليل لكل من شخصية هيلمر ونورا. لقد جسم لنا ابسن الأنانية في شخصية هيلمر. مع أن هيلمر رجل طموح دؤوب. رجلٌ واعٍ ذو ضميرٍ حي يأخذ أعباء السؤوليات على عاتقه فلا يتهاون بصغيرة أو كبيرة من دقائق أعماله. إن هيلمر محافظ على كرامته ومركزه في المجتمع. فهو يعرف أهمية منصبه فيرعاه بكل ما أوتي من حرص وعناية. وهمه الأكبر أن يظل محترماً في أعين الناس. ولا يبالِي أن يضحي بكل شيء حتى حبه في سبيل هذا الاحترام. أما بالنسبة لزوجته فهو لا يرى فيها إلا دمية, طفلةً صغيرة لا تستطيع أن تعيش بأفكارها. ولا يمكنها تقريرَ مصيرِها, لذا وَجَبَ عليها أن تعيش ضمن الدوائر التي يرسمها لها. ونورا هذه شخصية ظريفة تتمتع بروح الطفلة, تميل إلى الكذب والخداع أحياناً كما يفعل الأطفال. وهي مرحة تتمتع بظل خفيف. تهوى الرقص والغناء. وتحاول أن تنشر جواً من المرح في بيتها. إنها مهملة قليلة المبالاة. لكنها مع ذلك تحب زوجها وأولادها ذلك الحب الغامر الذي جعلها تقوم بأعمال في سبيل زوجها لا تقدم عليها أية امرأة. إنها ذكية لكن نموها الذهني بطيء. لقد كانت مدللة عند أبيها ثم انتقلت إلى زوجها فزادها دلالاً, وهذه علةَ بطء نموِّها الذهني. إذ أنها لم تدرك أن زوجَها يعاملها كاللعبة إلا بعد فترة طويلة من الزمن أو لعلها كانت تدرك. لكن حبها لزوجها جعلها ترضى بهذا, ولكنها لم تفكر بالتحرر من هذا الدلال الذي قضى على شخصيتها إلا بعد أن تحطمت حياتها على صخرة الحقيقة. والنظرة التي كان يُنظرُ بها لنورا على أنها طفلة. وتعيير هيلمر لها بالتشبه بأبيها جعلها تفكر بالقيام بأعمال لها قيمتها. وتتصرف تصرفات تنم عن نبل واعتداد في الشخصية. وهذا ما جعلها تُخفي موضوعَ القرض المالي عن زوجها. فمن ناحية تحافظ على كرامته. ومن ناحية أخرى تحتفظ لنفسها بالفخر والرضا عند ما تحس أنها قامت بهذا العمل مستقلة وبوحي من تفكيرها فقط. لقد أجاد ابسن في إظهار العواقبِ الوخيمة التي تنتجُ عن عدم المساواة في الحياة الزوجية وإغفال الزوجة. كما صور لنا الداء الوبيل الذي ينجم عن الأكاذيب والغموض في الجو العائلي. ومسرحية بيت الدمية من أحسن واقعيات ابسن من حيث المضمون. بل تعد من أحسن ما كتب من حيث واقعيتِها وأثرها في الحياة الاجتماعية. ابسن والرمز: كتب ابسن عدةَ مسرحيات تتأرجح بين الواقعية والرمزية كما كتب عدة مسرحيات رمزية. من أحسنها (براند) و(بيرجنت). والأدب الرمزي هو ذلك النوع من الأدب الذي يظهر شيئاً ويخفي شيئاً آخر. فهناك القشور واللباب. قد يتفق القراء على القشور ولكن اللباب يتراءى لهم بصور مختلفة تتفاوت بمقدار ما فيها من الجمال والمعاني والأهداف. والحركة الرمزية في الأدب جاءت رداً على المذهبين الواقعي والطبيعي, ونجد أن الحقيقة لا تبدو في صورتها الصادقة الأصيلة إلا في أعماق الأشياء. والطريقة لكشف هذه الأعماق هي الرمز والايحاء والتلميح. وليس الجهر والتصريح. ومعظم الرمزيين يرفضون الأدب الموضوعي سواء كان أدباً اجتماعياً أو أخلاقياً. ويرمزون أحياناً لمجرد الترفِ الذهني واللذةِ الفكرية المجردة حسب مبدأ ((الفن للفن)). مسرحية بيرجنت: يعالج ابسن في هذه المسرحية مأساة شاب خامِل الحس, خيالي, وصولي, مختلق للأكاذيب على جانب من الوضاعة واللؤم. وقد حلل الدكتور (ويكستايد) شخصية بيرجنت على هذا النحو: ((إن آثرتَ أن تختارَ السهلَ من الأعمال فلن تقوى على مواجهة الصعب منها, بل ستظل تحومُ حولَها دون أن تجسُرَ على الاقتراب منها. إنك بكل تأكيد ستبقى سيد الموقف, ولكن موقف سيزداد ضآلة يوماً بعد يوم. فإذا لم تقدم على عمل هام. ستعجز عن تحقيق رغباتك وستضعف عزيمتك, ثم لا تلبث أن تصبح عاجزاً تماماً عن بلوغ أي هدف لك في الحياة)). ومن النقاد من قال إن ابسن قد قصد بيرجنت هذا أهل النرويج ورماهم بصفات بيرجنت وأخلاقه. وهكذا نرى أن ابسن لا يتخلى عن كونه رائداً اجتماعي حتى في رمزياته. ولقد صدق الناقد الامريكي برنت راسكو بقوله في كتابه عمالقة الأدب الغربي عن الثورة الابسنيه: ((لقد كانت الثورة التي قام بها ابسن ثورةً جوهرية, خطيرة الشأن, بل كانت تُفَضَّلُ ألف مرة في أهميتها عن أية ثورة سياسية أو اقتصادية. لأن الثورة السياسية لا تنتج إلا مجرد تغييرات في الامتيازات. كما أن الثورة الاقتصادية لا تؤثر إلا في مجرد توزيع الثروة. بينما الثورة التي قام بها ابسن شمَلت أعظم الأمور والعلاقات. كالحب والعلاقات بين الرجال والنساء. والعلاقات بين المجتمع)). أسعد فضة [1] الأدب ومذاهبه. |