لماذا ولد المخرج و الممثل قبل المؤلف المسرحي بدمشق ؟ مسرحية دون جوان على مسرح القباني إشارة انطلاق الى نهضة مسرحية جيدة عملية دمج فرقة الفنون الدرامية التي كانت تابعة لوزارة الاعلام بفرقة المسرح القومي التابعة لوزارة الثقافة و الارشاد القومي , كانت أفضل عمل فني أقيم هذا الموسم .. فالمواهب كانت مبعثرة و موزعة بشكل لم يكن المجال واسعا للاستفادة منها .. أما الان وقد تجمعت المواهب في فرقة واحدة تمدها الدولة بكافة الامكانيات و ترعاها و تشرف عليها اشرافا مباشرا يجعل العمل الفني الذي تقدمه على مستوى جيد . و تعرض فرقة المسرح القومي بعد أن انضم اليها اعضاء فرقة الفنون الدرامية مسرحية موليير : دون جوان على مسرح ابي خليل القباني منذ أكثر من شهر و من المعتقد ان يمتد عرضها شهر آخر بعد النجاح الساحق الذي تلقاه من " الجمهور – النخبة " في دمشق . وقد قام بأدوار البطولة في هذه المسرحية : منى واصف و مخرج المسرحية الاستاذ أسعد فضة و عمر قنوع بالإضافة الى الانستين هيلدا زخم و مها صالح , و السادة : بشار القاضي و سليم حانا و أنور المرابط و ياسر العظمة و عبد الله النشواتي و عدنان عجلوني و اسماعيل نصر و يعقوب ابو غزالة و محمد طرقجي , كما أسهم عدد من الفنانين المختصين بإعداد هذه المسرحية فنيا للمسرح أراد موليير أن يقول في هذه المسرحية : أن عدالة السماء لابد أن تأخذ مجراها في الحياة , وان السماء حين تنتقم فسوف يكون انتقامها قاسيا و مفجعا , فدون جوان " أسعد فضة " رجل مزهو بجماله و شجاعته , وهو يعيش لحظته بشكل ممتلئ بغض النظر عما يكون تأثير ذلك على الآخرين , فهو يتنقل من فتاة الى فتاة و يغامر مغامرات كثيرة في المقاطعات و البلدان " لعل كلمة المخرج تغني عن الشرح فقد قال : اننا نجد في كل مجتمع من المجتمعات فئة من الناس لا تشعر بوجودها الا في السخرية من كل ما يؤمن به هذا المجتمع , ولا يطيب لها العيش الا إذا اتت من الرذائل كل ما تزينه لها أهوائها و نزواتها , وافراد هذه الفئة يظنون أن عملهم هذا يعلي من شأنهم بين الناس , وهم لا يملكون القدرة على تبرير ما يقومون به من اعمال , بل يعطون لأنفسهم حق القيام بأنكر المنكرات ,لأنهم يعتبرون أنفسهم فوق الشعب , ولا يصح لأحد أن يوجه لهم اللوم أو ينظر اليهم بعين الناقد . وقد صور لنا موليير هؤلاء في مسرحية دون جوان بشخصية دون جوان نفسه , وسخر به من هؤلاء الطواويس الذين يجدون في التهور و الانحلال , و الأنانية و الكذب و النفاق , متنفسا لهم , وغذاء لنفوسهم المريضة فدون جوان موليير لم يعد تلك الشخصية الأسطورية التي صورها غيره من الكتاب و التي تعيش في الأذهان فقط , بل أصبح صورة انسانية واقعية , تعيش في كل مجتمع , وفي أي عصر , لقد فقد دون جوان موليير جميع القيم ولم يعد يؤمن الا بأن اثنين و اثنين تساوين أربعة و هكذا .. وقد تذرع بالمناداة بالحرية فيما يقوم به . و لكن الحرية التي نادى بها دون جوان تقوم على فكرة عمياء لا يؤمن بها سواه و لقد أراد أن يحطم كل شيء , ويحصل على ما يريد و ينغمس في عالم المجون و الانحلال , فحطم نفسه , و جاءت مأساته شبيهة بمأساة بطل كامو " كاليجولا " و مأساة بطل غوته " فاوست " . الى جانب شخصية دون جوان وضع موليير شخصية تابعة سجاناريل فهما خطان متوازيان في الرواية لا يلتقيان ابدا . و شخصية سجاناريل ترمز الى المجتمع الذي يعيش فيه أمثال دون جوان المجتمع السليم الفطرة , الصادق الاحساس . و قد رسم موليير شخصية سجاناريل بصورة مشوهة لوجود بعض الصفات غير الحميدة فيه , فهو يتجاهل احيانا , و ينافق و يرائي أحيانا اخرى . بل يستحسن في سيده اشياء يكرهها من كل قلبه , ويزيف عواطفه نحوه رغم احتقاره له , فهو غير راض عن كل ما يقدم عليه سيده , و عندما يحاول أن يحتج على تصرفاته ينهزم امام أول نظرة تهديد منه , بل يمجد ما كان يراه سيئا و حقيرا في سيده . و خلاصة القول : ان المجتمع الذي ينتشر فيه الرياء و النفاق لا يستطيع ابدا أن يقاوم المنحرفين و المنحلين , بل هو يغذي وجودهم الكاذب .. فعندما يحرر المجتمع نفسه من الجبن و النفاق و الزيف و يمزق عن جبينه قناع الجهل و الرياء , حينئذ يقضي على وباء المرض الاجتماعي و تأخذ قيمه و معتقداته طريقها نحو النور . المسرحية من خلال الممثلين هناك ثلاثة ممثلين هم محور المسرحية الأول : منى واصف التي قامت بدور " دونا الفيرا " و المخرج أسعد فضة في دور " دون جوان " عمر قنوع في دور " سجاناريل " فهؤلاء الثلاثة هم الذين قدموا دون جوان كما أراد موليير , وهم نماذج مختلفة , فسجاناريل خادم دون جوان و رفيقه في كل رحلاته لا يؤمن بما يؤمن به سيده , انه رجل يخاف السماء و يخاف انتقامها , اما سيده فإنه سخر منها و لا يؤمن بها , انه يؤكد ان الحياة لا تعاد مرة أخرى و أن على الانسان أن يعيش لحظته بأي ثمن . أما منى واصف " دونا الفيرا " فإنها تمثل الانسانة المؤمنة بالحب الصافي الصادق , وحين تكتشف ان دون جوان يخادعها و يلعب بعواطفها تسترد كبرياء الانثى , و تكشف الزيف عن وجهه و أمام نظراته القاسية التي تتوغل في عواطفها تنهار للحظة و تطلب صفحه و تطلب منه أن يعود الى جادة الصواب – وحين تلمح أن دون جوان لا يمكن أن يتبدل , فهو هذا الشاب المعجب بجماله و رجولته الى حد يعتقد فيه ان كل امرأة يجب ان تخضع له و أن تقدم له نفسها دون أن يطلب منها ذلك , ويعود الكبرياء من جديد ليتلبس رداء منى واصف , فتقف لتكشف القناع عن الوجه المرائي الكاذب و تؤكد له أن لابد أن تنتقم منه السماء , لكن دون جوان المستهتر لا يهتم بما تتفوه به دونا الفيرا , وحين تنسحب من أمامه ينساها للتو . وهناك شخصيات أخرى ساعدت على بناء فكرة المسرحية صعودا حتى قمتها , مثلا : مها الصالح في دور شارلوت وهيلدا زخم في دور ماتيورين , انهما تتنازعان حب دون جوان و تتصارعان من أجل الفوز به , فشارلوت تترك خطيبها – سليم حانا – مييرو " الذي أساء للمسرحية اساءة بالغة بحركاته الايمائية الزائدة عن الحد " تتركه لمجرد أن تلتقي بدون جوان في إحدى الغابات , وهناك عدنان عجلوني و ياسر العظمة فإنهما يبحثان عن دون جوان للانتقام منه , لكن مساعدة دون جوان لأحدهما دون معرفته و خوضه معركة الى جانبه يجعله في حيرة من أمره حين يكتشف أن دون جوان هو الذي انقذه من المعركة . أما عبد الله النشواتي الذي قام بدور (( تمثال الحاكم )) الذي تحركه و تسيره السماء , فإنه قد ابدع بشكل رائع , وللمخرج فضل كبير على هذا الإبداع , فقد استعمل مكبرات الصوت المزدوجة في صداها حين يتكلم التمثال .. كما أنه استعمل تسليط الأضواء عليه ببراعة فائقة , حتى كادت شخصية التمثال تطغي على جميع شخصيات المسرحية . و الملاحظات التي يمكن لنا أن نوردها في هذه العجالة تجعلنا نقول أن الممثل الناجح و المخرج الناجح , قد ولدا عندنا قبل المؤلف المسرحي الناجح , إنه أمر يبدو غريبا , ولكنه الواقع , عسى أن يقرع اعلان هذه الحقيقة ضمير الأدب , فيفطن الى تقصيره , ويحاول أن يلحق بركب الفن الصاعد على يد هذه النخبة من نجوم مسرحنا الفني . بل ان الكلمة الأخيرة هي ضرورة (( تغريب )) هؤلاء الفنانين الرواد , بإرسالهم الى دول المسرح الراقي في شرقيه و غربيه , في زيارات و دورات لمدد طويلة و قصيرة بقصد الاطلاع و الدراسة , وتعبئة الطاقة الفنية و تغذيتها , ونؤكد أن بعض الدول أو المنظمات لا تتأخر عن توجيه مثل هذه الدعوات الى فناني المسرح القومي و إدارييه , بواسطة الوزارة , فإذا لم تتوافر هذه الدعوات , كان علينا أن ننفق في هذا المجال بعض الانفاق الذي سيرتد الينا ربحا ماديا و معنويا كبيرا في مستقبل قريب . في الواقع فإن هذه الكلمة ستظل قائمة ما دام لدينا هذه النابغة الرائعة منى واصف و زميلاتها ثراء دبسي و هالة شوكت و مها صالح و ثناء دبسي و هيلدا زخم و غيرهن , وما دام لدينا أسعد فضة و خضر الشعار و رفيق سبيعي و عمر قنوع و عبد اللطيف فتحي و سعد الدين بقدونس و محمد علي عبدو , هؤلاء الرواد الذين أخذوا يبنون لمسرحنا العربي في سورية ثروة رائعة و بناءا شاهقا .. ان مسرحية ((دون جوان )) قد كشفت لنا حقيقة هذه المواهب , وأريد أن أقول أن النص الجيد لا يكفي , أن هؤلاء الذين قدموا هذه المسرحية منحونا تفاؤلا كبيرا بمستقبل مسرحنا الناشئ .. فهذا الجهد الواضح في اخراجها و هذا الجهد الرائع في تمثيلها يؤكد لنا أننا أمام نهضة مسرحية سوف يكون لها شأن كبير في وطننا العربي الكبير . و تحية الى أسعد فضة و الى منى واصف الرائعة و الى المسرح القومي برمته . ياسين رفاعية
|