مسرح | سينما | دراما | مع الصحافة والنقاد | قول على قول | قيل في اسعد | قراءات | معلومات شخصية | صور شخصية | الاتصال بي


دون جوان

ظاهرة الفساد المستمرة في كل جيل

" الدونجوانية " بين موليير و المسرح القومي

دقات غير طبيعية تطرق الباب ودون جوان يصرخ أنه لا يريد أن يزعجه أحد في تلك الساعة بعد أن استطاع بذكائه و خبثه أن يتخلص من المدين مسيو ديماتشي و من نصائح والده دون لويس , الوالد الذي يتدخل في أمور ابنه و الذي " يأتي بكل وقاحة لكي ينصحه بتغيير سلوكه " مما يدعو دون جوان الى القول بأن ما يثير حفيظته هو " أن يعيش الآباء بقدر ما يعيش أبناؤهم "

الدقات ما زالت متتابعة .. من تراه يأتيه في تلك الساعة انه يريد أن يتعشى بهدوء .. بعد أن تجسد أمامه قدر هام من ماضيه في عودة الدونا الفيرا لنصحه بالعدول عن سلوكه بعد أن ذهب والده , عجيب !! من يقرع الباب في هذه الساعة ؟ ويصرخ دون جوان لا تسمحوا لإنسان بالدخول , و يتطوع الخادم سغانريل للقيام بهذه المهمة فهو سعيد لأن سيده يجلسه معه على المائدة , لكنه يعود وهو يطلق صرخاته الحادة و الرعب يكاد يقضي عليه ..

ويدخل خلفه تمثال حجري متحرك .

دخول التمثال هو لعنة الماضي التي لا يمكن أن تمحى .. ان خطيئة الانسان قدر عليه ولا مجال للتهرب منها , ان التمثال الحجري هو تمثال الكومندور الذي قتله دون جوان ذات يوم .

لقد حاول دون جوان أن يسخر من الموت و التمثال معا عندما وجه دعوة ساخرة الى الكومندور الميت أو تمثاله أن يتفضل بالعشاء معه , ورغم أن التمثال يحني رأسه بالموافقة الا أن دون جوان لا يجد في الأمر أكثر من أنه " من المحتمل أن نكون قد خدعنا بيوم نحس , أو غررنا ببعض الاضطرابات التي عكرت علينا الرؤية "

ان السماء الآن ترسل معجزاتها  الا أن دون جوان يتمالك أعصابه و يصرخ " فلنظهر أن ما من شيء يستطيع أن يزلزلني "و تبلغ المسرحية بهذا المشهد ذروتها و حدتها .

و يحاول أن يتقبل الأمر بشكل عادي " أسرعوا فأحضروا لنا كرسيا و غطاء " .. يقول دون جوان ذلك وهو يدفع أحد الخدم الا أن أسعد فضة مخرج المسرحية التي يقدمها المسرح القومي و الذي يمثل الدور الرئيسي في المسرحية وهو دور دون جوان يضحك وهو يدفع الخادم في اليوم الأول لحضوري المسرحية و يضحك الخادم الثاني في اليوم الذي يليه

كنت أتوقع في متابعتي لهذا الموسم المسرحي أن أصطدم بأي شيء .. بمخرج يسيئ التقديم .. بممثل لا يفهم دوره .. بديكور سيء .. و كنت سأتقبل .. أما بممثل يضحك على المسرح !!! " هي تقيلة "

دون جوان نموذج يمثل ظاهرة تستطيع أن ترى لها أمثلة كثيرة في كل زمان , دون جوان هو الشاب الذي يفلسف فوضاه الحياتية و تقلباته الغرامية و انحلاله الخلقي .. أنه انسان لا يحترم شيئا .. شاب متهتك لا هم له الا مطاردة الفتيات و التنقل من فتاة الى أخرى .. انه نموذج تولد بعد عصر النهضة و بعد أن سرت مبادئ ميكيافيلي و انتقلت من السياسة الى السلوك الحياتي في القصور الملكية .

لكل عصر ظاهرته .. هناك ظاهرة فاوست " الانسان الذي يندفع الى المعرفة فيصل حدا يضيع فيه نفسه " و ظاهرة دون كيشوت " فرسان المغامرات و الانتصارات الوهمية " وظاهرة دون جوان .

ان الموقف الأول الذي يتخذ حيال ظاهرة من هذا النوع هو الموقف الديني , فرجل الدين هو أول من يتنبه للظاهرة و خطورتها و يحاول معالجتها بوسائله الخاصة ان الدونجوانية و تهتكها لا يمكن الا ان تجر الانسان الى الالحاد .. هناك دائما ما يذكر بالضمير و بالإله و بالخير و بالأخلاق .. الا أن اندفاعه و تهتكه لا بد و أن يجعلاه يضرب بهذه الأشياء جميعها عرض الحائط ليغرق في مباذله , وعندما يلوح له بريق التوبة يعلن الاستعداد لها  ( فيما بعد ) ..

.. هذا التأجيل وذلك الالحاد لابد و أن يعرضا صاحبهما لنقمة السماء ولا بد أن ينتهي بان يكون عبرة لغيره , وتنزل صاعقة من السماء تقضي على دون جوان بهذا الشكل عولجت ظاهرة الدونجوانية على يد القس ترسو دي مولينا في مسرحيته " متهتك اشبيلية و الضيف الحجري " عام1625 , ويذهب البعض الى أن أول من عالج الظاهرة هم اليسوعيون في مسرحية " قصة الكونت ليونشيد الذي ساءت عاقبته بعد أن أفسده ماكيافيلي " عام 1615

لكل جيل ظاهرته .. الا ان دون جوان ظاهرة كل جيل .. انها الظاهرة المستمرة , قبل تاريخ كتب معالجتها و بعد أيامنا هذه ان دون جوان نموذج لظاهرة التهتك و الفساد الخلقي في كل جيل , انها تبقى واحدة في كل العصور الا ان لكل عصر وسيلته الخاصة في معالجتها أو مناقشتها و تفهم دوافع سلوكها

ان دون جوان موليير يبرر سلوكه بنفسه " ان لكل الجميلات الحق في أن يسحرننا وليس يحق لواحدة أتيح لنا أن نلتقي بها قبل غيرها أن يحجب كسبها هذا ما للأخريات من حقوق عادلة في قلوبنا " و " ان المرء ليشعر بعذوبة متناهية في أن يسحق بالمديح العظيم , قلب جمال فتي , و أن يرى الى نفسه يحرز تقدما يوما بعد يوم " , أما بالنسبة لالبير كامو فإن دون جوان يمثل له نموذجا للعبثية و اللاجدوى . " ان العودة الى دون جوان في أي عصر لا تعني الا النظر اليه من وجهة نظر جديدة و معالجته بمفهوم جديد , أما الرجوع اليه كما قدمه أحدهم ( موليير ) و تقديمه بحرفيته فإن ذلك لا يعني الا الإقرار بوجهة نظر موليير في المعالجة و انني على ثقة تامة , ان المخرج أسعد فضة الذي قدم لنا دون جوان لم يكن يضع باعتباره الا اثبات مقدرته في تقديم الخوارق كالشبح و التمثال المتحرك و الموت بصاعقة سماوية وقد نجح في هذا الا أن السؤال يبقى مطروحا فيما اذا كنا نعيش ذلك الترف الفكري الذي يسمح لنا بعرض هذه العضلات أم ... ماذا ؟

دون جوان في مسرحية موليير لا يخرج من الحدود التي رسمت له منذ البداية , ان المسرحية مجموعة من الحوادث تساعد في تحديد شخصية دون جوان وفي تأكيد عاقبته .

المسرحية دينية في عرضها و معالجتها , و ان ما يجعلنا نرضى بعرضها في هذه الفترة هو وجود ظاهرة الدون جوان أو ما يشابهها ووجوب معالجة الانحراف في جيل الناشئة , الا أن المسرحية تفقد كل أمل في خير تقدمه نتيجة للطريقة التي عولجت بها الظاهرة ان معالجة هذه الظاهرة عن طريق السماء و الغيبيات كالأشباح و التماثيل المتحركة و الصواعق أمر لا يمكن أن يقدم قناعة للجيل المعاصر ان كانت قد فعلت ذلك في عصر موليير او ترسو دي مولينا .

وقد قلت للسيد فضة مخرج المسرحية انه كان عليه أن يعالج المسرحية من وجهة نظر جديدة لكي تستطيع تحقيق المهمة المرجوة منها , فكان جوابه أنه لا يستطيع التصرف في المسرحية " لأن العالم الميتافيزيقي يسيطر على الرواية من أولها الى آخرها , وان التصرف يعني كتابة المسرحية من جديد انني – كمخرج – أشعر بالواجب في الأمانة على النص مع حرية التصرف في تفسير الشخصيات كما أريد , ربما كان حل موليير للمشكلة بواسطة السماء و الغيبيات مثيرا للتساؤل الا ان علينا أن نتذكر انه كان في ظرف لا يسمح له بقول ما يريد " ربما لا يتسع المجال هنا لا يراد دفاع السيد أسعد فضة الا انه كان مصرا على تقديمها كما كتبها موليير وانه لا يجوز له التصرف أو التحريف .

الا إن هناك أمورا كثيرة كان يستطيع أن يفعلها ففي الموقف الذي يجتمع فيه دون جوان و خادمه سغانريل " عمر قنوع " و بالفلاحتين شارلوت " مها صالح " و ماتبورين " هيلدا زخم " و الفلاح بييرو " سليم حانا " خطيب شارلوت في هذا الموف كان بإمكان المخرج أن يطرح فكرة طبقية بشكل جدي ان الصفعات التي كان بييرو يتلقاها وهو يصيح : " الانكم سادة تأتون لتداعبوا نساءنا أمام لحانا ؟ اذهبوا فداعبوا نساءكم " كانت تثير ضحكاتنا , وكان من الممكن أن تثير شفقتنا و كرهنا لدون جوان علما بأن المسرحية قد نشأت و كتبت منذ البداية لإظهار مفاسد الطبقة المترفة , ان بإمكان المخرج أن يطرح المعاني الجديدة أو أن يؤكد المعاني التي وردت في المسرحية يجعل موقف ما كهذا الموقف أكثرجدية .

وقد قال لي لؤي الكيالي بعد أن خرجنا من المسرحية : " لا شك أن موليير قد بنى شخصية دون جوان بشكل يشعر المشاهد من خلال المسرحية انه إما مؤيد و إما معارض لموقف دون جوان هذه الايجابية أو السلبية تعبر عن الموقف الذي أراده موليير من خلال دون جوان و لكنني كمشاهد لم أشعر لا بسلبية و لا بإيجابية " و نستطيع أن نضيف لقول لؤي الكيالي أن المتفرج قد خرج بنتيجة عكسية تماما لما أراد موليير فإن المتفرج كان يحب دون جوان في المسرحية وربما تألم لموته .

كان بإمكان المخرج أن يضيف لمسات قليلة يفسر لنا من خلالها سببية السلوك , وقد قالت مها الصالح التي تمثل دور شارلوت في المسرحية : " أنني اعتبر أن دون جوان يسلك هذا السلوك من خلال نقص معين فهو يحاول بسلوكه أن يؤكد وجوده كرد فعل لحياة رتيبة يعيشها البلاط في ذلك العهد ان هذه الشخصية قد عادت بالضرر على مجتمعها و على أي مجتمع يمكن أن توجد فيه , ومن هنا نراها مناسبة للعرض , وقد جعل موليير عقوبة دون جوان على يد السماء وربما كان الأفضل أن يعاقبه المجتمع على يد خادمه سغانريل أو أحد أخوي دونا الفيرا "

كان بإمكان المسرحية أن تتحول من هذا الموقف الوعظي الى أي موقف آخر , وقد قال لي فاتح المدرس معلقا على المسرحية " لقد أعجبني العراك بين الدين و اللادين ان ذلك يقود الى اذكاء التفكير عند الشعب , الا أن الفكرة قديمة و ممجوجة , فاذا قلنا ان المسرحية وجدت لتكون درسا للمجتمع نرى أنها تتحول من مسرحية فنية الى مسرحية وعظية و المسرحية الوعظية من أتفه المسرحيات " وقد أنهى كلامه بقوله " ان هذه المسرحية في عداد المسرحيات التي يكون فيها الحوار أكثر من الحركة وهي تحول المسرح الى جو تدريسي "

ان المقاطع الطويلة التي لابد للممثل من القائها دفعة واحدة هي في الحقيقة مقياس للممثل الذي يستطيع التصرف بكلماته وأن يثبت مقدرته , وربما كانت هذه المقاطع التي نجد أمثلتها بكثرة لدى أبسن سببا في فشل مسرحية " عدو الشعب " , الا ان ممثلي دون جوان قد استطاعوا أن يثبتوا اقدامهم على المسرح .

وقد قال السيد أسعد فضة " ان في هذه المسرحية مجالا واسعا لأن يتوسع المخرج في تقديمها ويجب أن لا يقف أمامنا عائق في سبيل تقديم الأعمال المسرحية الكبيرة كأن يقال مثلا : المسرح صغير و الإمكانيات غير متوفرة .

اننا نغامر بإمكانياتنا المتواضعة و نقدم هذا العمل المسرحي .

وان في المسرحية مونولوجات طويلة تحتاج لمقدرة من الممثل على تأديتها وقد أثبت الممثلون فعلا و بجدارة هذه المواهب و الإمكانية لذلك "

أما الظاهرة الطبيعية و التي تجعلنا نتفاءل هي أن الممثل أو الممثلة الذي كان يؤدي أصغر الأدوار أو أكبرها كان يشعرنا أننا أمام ممثل و فنان , ان هيلدا زخم " ماتيورين " كانت تشعرنا مع زميلتها مها الصالح " شارلوت " أننا فعلا أمام فلاحتين اسبانيتين احداهما مرحة و ساذجة و الأخرى سليطة و عنيفة , كما و أن الفلاح بييرو " سليم حانا " كان فعلا ذلك الفلاح الاسباني الساذج بحبه و غضبه و طريقته في رواية الحوادث , ان سليم حانا يؤكد لنا مرة أخرى انه ممثل و فنان وفي حديثه قال لي : " انني أعيش دوري و هذا الدور يكشف عن نفسيتي .. اسمع !! ان المخرج موفق جدا . أقسم ب .. ب.. ب.. بشرفي "

وفي جوقة وراء الكواليس توجهت بأسئلتي الى جميع الممثلين عن رأيهم في المسرحية وفي دور كل منهم فكانت أجوبتهم جميعا انهم يفضلون أدوارهم و انهم راضون عنها , الا ياسر العظمة الذي كان يفضل لو أخذ دورا كوميديا , الا انه في دوره " دون كارلوس " قد أكد مقدرته كممثل منذ أن شاهدته في مسرحية " الشرك " وقد لفت نظري كممثل مجيد منذ ذلك الحين .

أما الممثلة منى واصف فقد استطاعت أن تكون ممثلة مجيدة بصوتها أكثر مما كانت بحركاتها و لقد قالت لي أن هذا الدور يتمشى مع خطها الجديد الذي تعتمد فيه على الالقاء و هي تصر ان هذا أفضل دور مثلته .

ولا بد لنا من تقديم اعجابنا للسيد عمر قنوع الذي استطاع تقمص الدور و منازعة أسعد فضة على بطولة المسرحية , وفي حديث معه حول المسرحية لم يعلق بأكثر من قوله ان الجمهور يحب هذا النوع من المسرحيات و استشهد بالزحام في الصالة .

ولا بد من الإشارة الى انه قد تطرف في حركاته الى حد أصبحت معه شخصية سغانريل شخصية " كلاون " أو شخصية كوميديا تعتمد الفارس , ولست أدري ان كان الخطأ هنا خطأ الممثل أم خطأ المخرج ان كان قد رسم هذه الصورة في ذهن الممثل عن سغانريل , هل أراد المخرج ان يكون سغانريل مهرجا أم ماذا ؟

ان سغانريل يمثل الشعب بطبيعته و سذاجته و اخفائه لأحكامه – كما يذكر المخرج في كلمته عن المسرحية – الا ان هناك ملاحظة لابد من ايرادها أيضا , وهي أن ذلك الشعب الذي يمثله سغانريل انما كان لمجتمع عاشه موليير و أن بإمكان أي انسان تتبع أدب موليير و تحرى مواقفه أن يدرك انه قد تراجع في اللحظة الأخيرة فتخلى عن فنيته ليرضي الرأي العام الديني , ان الأخوين ينفردان مرتين بدون جوان الا ان العقاب يأتي سماويا .

واذا كان سغانريل وهو ممثل الشعب و ممثل الجمهور و الناطق بلسانهم في أحكامهم فهل هناك ما يحرج أسعد فضة في جعل هذا النموذج أكثر جرأة و أقل نفاقا اذا كان هناك ما أحرج موليير ؟

ان تقديم مسرحية موليير كما كتبها موليير و بنفس الموقف الذي أراده موليير في نفس الظروف التي عاشها موليير يعني الموافقة على الموقف المطروح و تأكيده ولا يفيدنا الا في الاطلاع على ما كتب موليير و كأننا بذلك نجلس في مقهى يقرأ فيه علينا الراوي حكاية لا يملك كتابها أحد غيره , الا ان المبلغ الذي يدفعه المتفرج لمشاهدة المسرحية يمكنه من شرائها ككتاب اذا كان المخرج قد قدم لنا المسرحية لكي يعرفنا على موليير فقط

كان بودنا لو رأينا دون جوان أسعد فضة و ليس دون جوان موليير لأن هذا الأخير موجود في المكتبات .

ممدوح عدوان