حكاية بلا نهاية: بطولة جماعية... أداء متميز وعرض ممتع للمسرح القومي فرقة الجوالة سمت نفسها فرقة اليرموك تقوم بعرض مجموعة ألعاب، تقدم فيها متعة حزينة وتسلية سوداء، تضحك للوهلة الأولى ثم ما تلبث أن تفكر، فتتألم، ويقودك الألم إلى السخط على الواقع، وهو الباب الأول الذي يؤدي إلى الثورة على قوة التعليب والحصار والإحباط. يقول معد المسرحية ومخرجها أسعد فضة بأنه استفاد من مسرحية الدجاجة العمياء للكاتبة الأرجنتينية (روما ماهيو) بعد أن تمت ترجمة الأصل عن العامية الإسبانية، وعملية الكتابة الجديدة للمسرحية، والتي يعود قسم منها إلى جهد جماعي أثناء التدريبات أعطت المسرحية صفة التأليف. v يبدأ اللعب من الطفولة، شخصيات المسرحية تستعيد ذكرى طفولية، حيث يتناول الأطفال الخواف مع الدروس الأولى التي يتلقونها، الأطفال في المدرسة تعلب حركاتهم وعباراتهم، كل شيء يتم بمقدار ما تسمح لهم به المعلمة أو تعلمهم إياه، وحين ينفلتون من الرقابة تتفجر مكبوتاتهم، ويملؤون المسرح حركة وصخباً. عياط (زيناتي قدسية) الصوت الحزين المتفرد هو النغمة الإنسانية المعذبة طوال المسرحية، الطفولة اللقيطة المشردة تبحث عن الأم، كأن البشرية كلها لقيطة مشردة بلا أم، بلا حب، بلا حنان. أتصور أن هذا الخط في المسرحية الأصل كان أكثر عمقاً وتناغماً مع الخطوط المتداخلة الأخرى فيها، أنا لم أطلع على النص الأصلي. يكبر الإنسان، فينمو معه الخوف والحزن، وتزداد أدوات الحصار حوله، ويتخلص من الخوف والحصار، والاضطهاد فإنه يصبح مضطهداً (بكسر الهاء)، يصبح خلد الأرض، ينبق من الحجر، يمد رأسه المعفر من تحت التربة، يتجسس، ينقل إلى أسياده العتاة تقارير عن حركات رفاقه وأقوالهم، أو يصبح مديراً يحول موظفيه إلى آلات تعمل ولا تفكر. هل كان هذا شريراً بطبعه أم بالحزن والجوع والخوف تحول إلى منتج للشر؟ تجيب عبارات في نص المسرحية بأن الشر غير موجود: لكن الحزن هو الموجود، والنفس عندما تحزن تعمل العجائب. هذا هو نموذج ثانٍ في المسرحية مثله نجاح سفكوني. ذلك هو الواقع بكل قتامة فماذا عن الغد؟ المتنبئ (شكى بكى: أيمن زيدان) يستشرق عالماً آتياً فلا يرى غير الجثث والحرائق والموت، وأناساً تزدحم بهم الطرقات.. إذن لا أمل.. والكوميديا الإنسانية في حاضرها وغدها كوميديا سوداء. ويستطيع الإنسان أن يكون حصاناً جموحاً وثمة قوة غشيمة تشده إلى الخلف، وتمتطي ظهره وينوء بثقلها الهائل، إنها قوى الظلم اللاحضارية فماذا تنفع كل مدبجات التحريض في تحريره من تلك القوى.. هذا مشهد آخر شخصه العرض. أنت الباحث عن اللقمة واللقمة تهرب على مرأى منك، أنت الإنسان المكيس، المشلول الأعضاء بالقيود، يطلبون منك أن تدخل في سباق حضاري، تندفع ثم ما تلبث أن تسقط، هذا وضع غير معقول.. مشهد آخر شخصه العرض. يحدثونك عن الجوع والمحرومين والثورة وفي بيوتهم التخمة، وفي محافظهم كل أنواع المهربات من المأكولات والمشروبات الأجنبية.. إذن ليس أمامك إلا أن تنتزع اللقمة منهم انتزاعاً.. وعجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه! هذا مشهد آخر شخصه العرض. مراحل تمر بها حياة الإنسان خلال أوضاع لا معقولة، وفي النهاية يتألل هذا الإنسان، يصبح مجرد آلة ناسخة تعمل بالصافرة وتتوقف بالصافرة، وثمة حجب كثيفة تفصل الإنسان عن الإنسان، زميلاً كان أم نسيباً أم جاراً.. إنها المعايشة المشتركة الخادعة، إنها معايشة تشيبئية: هذا يتحدث عن مباراة في كرة القدم، وثانٍ عن دور الإذن، وثالث عن بواسيره، والرابعة عن شروق الشمس، البشرية غدت صماء، والحوار القائم فيها هو حوار الطرشان، إنه أقسى أنواع الانعزال إلى أعمال النفس فغير من تركيبها وتوازنها، خربها وغمر أجزاءها بطبقة كثيفة من الصقيع.. هكذا يفتقد التناغم البشري، ويصبح الفرد جزيرة منفصلة في محيط العماء الاجتماعي الجليدي. إنه مشهد آخر شخصه العرض المسرحي. v خمس شخصيات تعرض أمامك عالماً متفجراً بالحركة والصخب والعنف، لكنه في قراراته خامد مهزوم محبط، لأنه افتقد الحب الإنساني، استبدل به القسوة والظلم والحديد، ولبث بعض الأمل في النفس الإنسانية المعذبة عزفت الأغنية الأخيرة على وتر العودة، العودة إلى علاقات الحب الأولى: (بسيطة بكرة الظلم بيدبل ومنرجع للعيشة البسيطة كيف يتألل الإنسان ويتشيأ إلى هذا الخد المحزن؟ كيف تجهض كل محاولات رفضه وتحقيق ذاته؟ كيف يعجز عن الوصول إلى حريته فيصبح مشوهاً إلى هذه الدرجة المخيفة، وتصاب روحه بحروق من الدرجة الثالثة؟ يتساءل المرء أية معقولية في هذا الطرح شكلاً ومضموناً؟ وبشيء من السبر نتعرف أن هذه اللامعقولية متجذرة في لا معقولية الوضع الإنساني، ولكشف الحقيقة، وللوصول إلى عرض الواقع وجوهره المخيف المكنون كان لا بد من البحث عن شكل خارج عن القواعد المتعارف عليها، وهذا ما عمل العرض على تحقيقه، الواقع يتم نبشه بقسوة، بوحشية، بجنون، ليعرض أمامنا عارياً من لبوسه، بكل تشوهاته وأخطاره – وهذا ما يفعله المسرح الطليعي من خلال كوميديا قاتمة. v مسافات الدخول إلى النص الأصلي كانت ملحوظة في أغلب الأحيان، فثمة نقلات في المشاهد من المحلي – العربي (إعداد) إلى الإنساني – الشامل (أصل) تبدو واضحة، لكنها على أية حال لا تتحول إلى انكسارات في العمل، عناك وحدة مقبولة ساهم العرض في تأكيدها شدت أجزاء العمل ككل ضمن رؤية واضحة، ورغم إدخالات تحليل الوضع العربي الاجتماعي والسياسي من تجزؤ واضطهاد وجوع وفقدان الحرية فقد بقي النسق الإنساني هو الغالب كمحصلة نهائية. هذه المقولات ساهم الإخراج إلى حد بعيد في إيصالها من خلال الضحكة غير المغتصبة ، ولعبة الضحكة بسيطة كنا نلعبها ونحن صغار نسميها (أم عميش) كان لها في العرض دلالتها ودورها في عملية ربط المشاهد. v أسعد فضة كمخرج استطاع أن يكون منسقاً ذكياً، بقيم توازناً دقيقاً على مستويين: توازن بين المشاهد، وتوازن بين الممثلين. المشاهد تبدو وكأنها مرسومة على الخشبة – زمنياً ومكانياً بمقياس دقيق، أما الممثلون فكان التناغم في حركاتهم رائعاً، لم ينفرد أي منهم ببطولة أو انتزاع – سرقة مشهد، ورغم تباين قدراتهم من خلال متابعتي لهم في عروض عديدة فإنهم بدوا جميعاً في مستوى واحد، وهو بالتأكيد مستوى أكثر من جيد، ذلك يعود إلى فهم واع للدور أو الأدوار التي أدوها، والدخول في الدور، وانبثاق الحركة من هذا الوعي، وإلى طموح كل منهم إلى تقديم أنموذجة أو ما اختص به بشكل متميز من غير فقد الارتباط مع الآخرين وأخيراً إلى رؤية المخرج التنسيقية الكلية، بحيث مكنته من متابعة الرصد من مرقبين: داخلي وخارجي. توقع كثير من الحضور أن يجدوا بطولة فردية في التمثيل، أعني أداءً متميزاً لشخص بعينه ولكنهم في اعتقادي لم يصابوا بخيبة، رغم عدم تحقق ما توقعوه، فقد خرجوا مستمتعين بالأداء المتناسق الرائع للمجموعة بكاملها، ولا استثني أحداً منهم: مها الصالح التي أدت بحيوية فائقة، زيناتي قدسية كما عهدناه، أيمن زيدان حضور جيد، نجاح سفكوني مفاجأة في التعبير والحركة بالنسبة لأدوار سابقة، تيسير إدريس أداء متناغم. لقد ملؤوا المسرح حياة وحركة، واستطاعوا توليد انفعالات متعددة لدى الجمهور، وحافظوا على الوتيرة المتصاعدة في العرض كمان أراد لها المخرج وجهدوا. بقي لدي تساؤل: مهمتان شاقتان قام بها الممثلون: الأولى هي الدخول إلى شخصية معينة ثم الخروج منها للدخول إلى أخرى وهكذا وأشهد أن الدخول والخروج كانا يتمان بالتوقيت والحركة النفسية والجسدية الصحيحين ولكل شخصية شروطها النفسية والحركة التي يجب أن تتحقق، وقد أجادوا في تحقيقها. والثانية هي تلك الرياضة الحركية الشاقة التي قاموا بها، وقد خرجوا بعد هاتين المهمتين مجهدين تماماً، هذا ما لاحظته، ترى إن كان يمكنهم الاستمرار لو طالت المسرحية نصف ساعة أخرى أو أكثر، وكم يمكنهم الاستمرار في تقديم هذا العرض. طبعاً هذا مجرد تساؤل، والممثل إذ يخرج من العرض غير مجهد أفضل مما لو خرج منه منهكاً. v المحطات الغنائية كانت مريحة ومقنعة بتحقق الارتباط العضوي بينها وبين المادة الدرامية، وتركيز مؤلفها عيسى أيوب على علاقات الخوف والحرية والحزن. على جسر الحرية صار الخوف مدينة بتغني البيوت للفرح الهربان يا يا حزن خلينا نعملك أعياد وذاكرتي المثلمة لا تسمح لي باستعادة الأغنية كاملة. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى استخدام الإضاءة بشكل جيد، وقدرة الموسيقى على المرافقة والإيحاء وتعميق الإحساس بالحدث. استطاع نعمان جود مصمم الديكور تحقيق العلاقة بين الكلمة – الحركة والديكور الذي بدا بسيطاً معبراً: خلفية سوداء، معادلة لهذا العصر الأسود، مرسوم عليها هوائيات تمثل تقنية العصر، من المفترض أن تكون أدوات اتصال ولكنها ليست غير أدوات قطع، وعربة فرقة متجولة تربط العصر الوسيط بتقنيات القرن العشرين، وإنسان عربي بملابسه التقليدية مصلوب في وضع ذري، وقمامة من مخلفات الغرب تملأ جانبي المكان وساحته أحياناً، وكل إنتاج محلي وعربي هو استمرار لبضاعة الكلام. v قدم العرض مجموعة لوحات ولقطات ناقدة، ساخرة حيناً، مؤلمة حيناً آخر، متأنية وسريعة، اعتمدت الصورة تارةً واللفظة تارةً أخرى، غير أنه في النهاية يعتبر عرضاً طليعياً من جانبيه النصي والشكلي، أثبت فيه المخرج قدرته على التعامل بذكاء مع مسرح عكسي بنيته الدرامية ضدية، غير تقليدية، وقد عرفناه سابقاً مخرجاً ناجحاً في مسرحيات ذات بنية درامية تقليدية. قدم العرض بشكل تجريبي ممتع، لم يرهق المتفرج، خلافاً لما رأينا سابقاً من بعض عروض تجريبية، والمسرح الطليعي في جوهره كوميديا إنتقادية ساخرة. وهذا ما حققه العرض، إنه بحق يعتبر أحد نجاحات المسرح القومي.
عبد الفتاح قلعجي. |